مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٣٢
اعلم أنه تعالى لما وصف أحوال المتكبرين عن قبول التوحيد المصرين على إنكار النبوة أردفه بذكر حال المخلصين في كيفية الثواب، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : ذكرنا في فتح اللام وكسرها من المخلصين قراءتين فالفتح أن اللّه تعالى أخلصهم بلطفه واصطفاهم بفضله والكسر هو أنهم أخلصوا الطاعة للّه تعالى.
المسألة الثانية : اعلم أنه تعالى وصف رزقهم بكونه معلوما، ولم يبين أن أي الصفات منه هو المعلوم فلذلك اختلفت الأقوال، فقيل معناه إن ذلك الرزق معلوم الوقت وهو مقدار غدوة وعشية وإن لم يكن ثمة لا بكرة ولا عشية، قال تعالى : وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم : ٦٢]، وقيل معناه أن ذلك الرزق معلوم الصفة لكونه مخصوصا بخصائص خلقها اللّه فيه من طيب طعم ورائحة ولذة وحسن منظر، وقيل معناه أنهم يتيقنون دوامه لا كرزق الدنيا الذي لا يعلم متى يحصل ولا متى ينقطع، وقيل معناه : القدر الذي يستحقونه بأعمالهم من ثواب اللّه وكرامته عليهم، وقد بين اللّه تعالى أنه يعطيهم غير ذلك على سبيل التفضل، ثم لما ذكر تعالى أن لهم رزقا بين أن ذلك الرزق ما هو فقال : فَواكِهُ وفيه قولان الأول : أن الفاكهة عبارة عما يؤكل لأجل التلذذ لا لأجل الحاجة، وأرزاق أهل الجنة كلها فواكه لأنهم مستغنون عن حفظ الصحة بالأقوات / فإنهم أجسام محكمة مخلوقة للأبد، فكل ما يأكلونه فهو على سبيل التلذذ والثاني : أن المقصود من ذكر الفاكهة التنبيه بالأدنى على الأعلى، يعني لما كانت الفاكهة حاضرة أبدا كان الإدام أولى بالحضور، والقول الأول أقرب إلى التحقيق، واعلم أنه تعالى لما ذكر الأكل بين أن ذلك الأكل حاصل مع الإكرام والتعظيم فقال : وَهُمْ مُكْرَمُونَ لأن الأكل الخالي عن التعظيم يليق بالبهائم.
ولما ذكر تعالى مأكولهم وصف تعالى مساكنهم فقال : فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ ومعناه أنه لا كلفة عليهم في التلاقي للأنس والتخاطب، وفي بعض الأخبار أنهم إذا أرادوا القرب سار السرير تحتهم، ولا يجوز أن يكونوا متقابلين إلا مع حصول الخواطر والسرائر ولن يكونوا كذلك إلا مع الفسحة والسعة، ولا يجوز أن يسمع بعضهم خطاب بعض ويراه على بعد إلا بأن يقوي اللّه أبصارهم وأسماعهم وأصواتهم، ولما شرح اللّه صفة المأكل والمسكن ذكر بعده صفة الشراب فقال : يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ يقال للزجاجة التي فيها الخمر كأس وتسمى الخمرة نفسها كأسا قال :
وكأس شربت على لذة [و أخرى تداويت منها بها]
وعن الأخفش : كل كأس في القرآن فهي الخمر، وقوله : مِنْ مَعِينٍ أي من شراب معين، أو من نهر معين، المعين مأخوذ من عين الماء أي يخرج من العيون كما يخرج الماء وسمي معينا لظهوره يقال عان الماء إذا ظهر جاريا، قاله ثعلب فهو مفعول من العين نحو مبيع ومكيل، وقيل سمي معينا لأنه يجري ظاهر العين، ويجوز أن يكون فعيلا من المعين وهو الماء الشديد الجري ومنه أمعن في المسير إذا اشتد فيه، وقوله :
بَيْضاءَ صفة للخمر، قال الأخفش، خمر الجنة أشد بياضا من اللبن، وقوله : لَذَّةٍ فيه وجوه أحدها : أنها وصفت باللذة كأنها نفس اللذة وعينها كما يقال فلان جود وكرم إذا أرادوا المبالغة في وصفه بهاتين الصفتين


الصفحة التالية
Icon