مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٣٨
والحميم الماء الحار المتناهي في الحرارة، والمعنى أنه إذا غلبهم ذلك العطش الشديد سقوا من ذلك الحميم، فحينئذ يشوب الزقوم بالحميم نعوذ باللّه منهما.
واعلم أن اللّه وصف شرابهم في القرآن بأشياء منها كونه غساقا، ومنها قوله : وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد : ١٥] ومنها ما ذكره في هذه الآية، فإن قيل ما الفائدة في كلمة (ثم) في قوله : ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ؟ قلنا فيه وجهان الأول : أنهم يملؤون بطونهم من شجرة الزقوم وهو حار يحرق بطونهم فيعظم عطشهم، ثم إنهم لا يسقون إلا بعد مدة مديدة والغرض تكميل التعذيب، والثاني : أنه تعالى ذكر الطعام بتلك البشاعة والكراهة، ثم وصف الشراب بما هو أبشع منه، فكان المقصود من كلمة ثم بيان أن حال المشروب في البشاعة أعظم من حال المأكول، ثم قال تعالى : ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ قال مقاتل : أي بعد أكل الزقوم وشرب الحميم، وهذا يدل على أنهم عند شرب الحميم لم يكونوا في الجحيم، وذلك بأن يكون الحميم من موضع خارج عن الجحيم، فهم يوردون الحميم لأجل الشرب كما تورد الإبل إلى الماء، ثم يوردون إلى الجحيم، فهذا قول مقاتل، واحتج على صحته بقوله تعالى : هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن : ٤٣، ٤٤] وذلك يدل على صحة ما ذكرناه، ثم إنه تعالى لما وصف عذابهم في أكلهم وشربهم قال : إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ قال الفراء :
الإهراع الإسراع يقال هرع وأهرع إذا استحث، والمعنى أنهم يتبعون آباءهم اتباعاً في سرعة كأنهم يزعجون إلى اتباع آبائهم، والمقصود من الآية أنه تعالى علل استحقاقهم للوقوع في تلك الشدائد كلها بتقليد الآباء في الدين وترك اتباع الدليل، ولو لم يوجد في القرآن آية غير هذه الآية في ذم التقليد لكفى.
ثم إنه تعالى ذكر لرسوله ما يوجب التسلية له في كفرهم وتكذيبهم، فقال : وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ فبين تعالى أن إرساله للرسل قد تقدم والتكذيب لهم قد سلف، ويجب أن يكون له صلي اللّه عليه وسلّم أسوة بهم حتى يصبر كما صبروا، ويستمر على الدعاء إلى اللّه وإن تمردوا، فليس عليه إلا البلاغ.
ثم قال تعالى : فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ وهذا وإن كان في الظاهر خطابا مع الرسول صلي اللّه عليه وسلّم، إلا أن المقصود منه خطاب الكفار لأنهم سمعوا بالأخبار جميع ما جرى من أنواع العذاب على قوم نوح وعلى عاد وثمود وغيرهم، فإن لم يعلموا ذلك فلا أقل من ظن وخوف يصلح أن / يكون زاجرا لهم عن كفرهم. وقوله تعالى : إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فيه قولان أحدهما : أنه استثناء من قوله : وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ والثاني : أنه استثناء من قوله : كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ [يونس : ٧٣] فإنها كانت أقبح العواقب وأفظعها إلا عاقبة عباد اللّه المخلصين، فإنها كانت مقرونة بالخير والراحة.
[سورة الصافات (٣٧) : الآيات ٧٥ إلى ٨٢]
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
القصة الأولى- قصة نوح عليه السلام


الصفحة التالية
Icon