مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٤٤
العمل حتى يكون كل واحد من هذين اللفظين على وفق الآخر والثاني : أنه تعالى قال : فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ [الأعراف : ١١٧] وليس المراد أنها تلقف نفس الإفك بل أراد العصي والحبال التي هي متعلقات ذلك الإفك فكذا هاهنا الثالث : أن العرب تسمي محل العمل عملا يقال في الباب والخاتم هذا عمل فلان والمراد محل عمله فثبت بهذه الوجوه الثلاثة أن لفظة ما مع بعدها كما تجيء بمعنى المصدر فقد تجيء أيضا بمعنى المفعول فكان حمله هاهنا على المفعول أولى لأن المقصود في هذه الآية تزييف مذهبهم في عبادة الأصنام لا بيان أنهم لا يوجدون أفعال أنفسهم، لأن الذي جرى ذكره في أول الآية إلى هذا الموضع هو مسألة عبادة الأصنام لا خلق الأعمال، واعلم أن هذه السؤالات قوية وفي دلائلنا كثيرة، فالأولى ترك الاستدلال بهذه الآية واللّه أعلم.
واعلم أن إبراهيم عليه السلام لما أورد عليهم هذه الحجة القوية ولم يقدروا على الجواب عدلوا إلى طريق الإيذاء فقالوا ابنوا له بنيانا واعلم أن كيفية ذلك البناء لا يدل عليها لفظ القرآن، قال ابن عباس : بنو حائطا من حجر طوله في السماء ثلاثون ذراعا وعرضه عشرون ذراعا وملئوه نارا فطرحوه فيها، وذلك هو قوله تعالى :
فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ وهي النار العظيمة، قال الزجاج : كل نار بعضها فوق بعض فهي جحيم، والألف واللام في الجحيم يدل على النهاية والمعنى في جحيمه، أي في جحيم ذلك البنيان، ثم قال تعالى : فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ والمعنى أن في وقت المحاجة حصلت الغلبة له، وعند ما ألقوه في النار صرف اللّه عنه ضرر النار، فصار هو الغالب عليهم. واعلم أنه لما انقضت هذه الواقعة قال إبراهيم : إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ ونظير هذه الآية قوله تعالى : وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [العنكبوت : ٢٦] وفيه مسائل :
المسألة الأولى : دلت هذه الآية على أن الموضع الذي تكثر فيه الأعداء تجب مهاجرته، وذلك لأن إبراهيم صلوات اللّه عليه وسلامه، مع أن اللّه سبحانه خصه بأعظم أنواع النصرة، لما أحس منهم بالعداوة الشديدة هاجر من تلك الديار، فلأن يجب ذلك على الغير كان أولى.
المسألة الثانية : في قوله : إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي قولان الأول : المراد منه مفارقة تلك الديار، والمعنى إني ذاهب إلى مواضع دين ربي والقول الثاني : قال الكلبي : ذاهب بعبادتي إلى ربي، فعلى القول الأول المراد بالذهاب إلى الرب هو الهجرة من الديار، وبه اقتدى موسى حيث قال : كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ [الشعراء : ٦٢] وعلى القول الثاني المراد رعاية أحوال القلوب، وهو أن لا يأتي / بشيء من الأعمال إلا للّه تعالى، كما قال : وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام : ٧٩] قيل إن القول الأول أولى، لأن المقصود من هذه الآية بيان مهاجرته إلى أرض الشأم، وأيضا يبعد حمله على الهداية في الدين، لأنه كان على الدين في ذلك الوقت إلا أن يحمل ذلك على الثبات عليه، أو يحمل ذلك على الاهتداء إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة في أمر الدين.
المسألة الثالثة : قوله : سَيَهْدِينِ يدل على أن الهداية لا تحصل إلا من اللّه تعالى، كما يقول أصحابنا ولا يمكن حمل هذه الهداية على وضع الأدلة وإزاحة الأعذار، لأن كل ذلك قد حصل في الزمان الماضي، وقوله : سَيَهْدِينِ يدل على اختصاص تلك الهداية بالمستقبل، فوجب حمل الهداية في هذه الآية على تحصيل العلم والمعرفة في قلبه، فإن قيل إبراهيم عليه السلام جزم في هذه الآية بأنه تعالى سيهديه، وأن موسى


الصفحة التالية
Icon