مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٥٦
اعلم أن هذا هو القصة السادسة وهو آخر القصص المذكورة في هذه السورة، وإنما صارت هذه القصة خاتمة للقصص، لأجل أنه لما لم يصبر على أذي قومه وأبق إلى الفلك وقع في تلك الشدائد فيصير هذا سببا لتصبر النبي صلى اللّه عليه وسلّم على أذى قومه.
أما قوله : وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف» قرئ يونس بضم النون وكسرها.
المسألة الثانية : دلت هذه الآية على أن هذه الواقعة إنما وقعت ليونس عليه السلام بعد أن صار رسولا، لأن قوله : وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ
معناه أنه كان من المرسلين حينما أبق إلى الفلك، ويمكن أن يقال إنه جاء في كثير من الروايات أنه أرسله ملك زمانه إلى أولئك القوم ليدعوهم إلى اللّه، ثم أبق والتقمه الحوت فعند ذلك أرسله اللّه تعالى، والحاصل أن قوله : لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
لا يدل على أنه كان في ذلك الوقت مرسلا من عند اللّه تعالى، ويمكن أن يجاب بأنه سبحانه وتعالى ذكر هذا الوصف في معرض تعظيمه، ولن يفيد هذه الفائدة إلا إذا كان المراد من / قوله : لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ
أنه من المرسلين عند اللّه تعالى.
المسألة الثالثة : أبق من إباق العبد وهو هربه من سيده، ثم اختلف المفسرون فقال بعضهم : إنه أبق من اللّه تعالى، وهذا بعيد لأن ذلك لا يقال إلا فيمن يتعمد مخالفة ربه، وذلك لا يجوز على الأنبياء واختلفوا فيما لأجله صار مخطئا، فقيل لأنه أمر بالخروج إلى بني إسرائيل فلم يقبل ذلك التكليف وخرج مغاضبا لربه، وهذا بعيد سواء أمره اللّه تعالى بذلك بوحي أو بلسان نبي آخر، وقيل إن ذنبه أنه ترك دعاء قومه، ولم يصبر عليهم.
وهذا أيضا بعيد لأن اللّه تعالى لما أمره بهذا العمل فلا يجوز أن يتركه، والأقرب فيه وجهان الأول : أن ذنبه كان لأن اللّه تعالى وعده إنزال الإهلاك بقومه الذين كذبوه فظن أنه نازل لا محالة، فلأجل هذا الظن لم يصبر على دعائهم، فكان الواجب عليه أن يستمر على الدعاء لجواز أن لا يهلكهم اللّه بالعذاب وإن أنزله، وهذا هو الأقرب لأنه إقدام على أمر ظهرت أماراته فلا يكون تعمدا للمعصية، وإن كان الأولى في مثل هذا الباب أن لا يعمل فيه بالظن ثم انكشف ليونس من بعد أنه أخطأ في ذلك الظن، لأجل أنه ظهر الإيمان منهم فمعنى قوله : إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ
ما ذكرناه الوجه الثاني : أن يونس كان وعد قومه بالعذاب فلما تأخر عنهم العذاب خرج كالمستور عنهم فقصد البحر وركب السفينة، فذلك هو قوله : إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ
وتمام الكلام في مشكلات هذه الآية ذكرناه في قوله تعالى : وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [الأنبياء : ٨٧] وقوله : إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ
مفسر في سورة يونس والسفينة إذا كان فيها الحمل الكثير والناس يقال إنها مشحونة، ثم قال تعالى : فَساهَمَ
المساهمة هي المقارعة، يقال أسهم القوم إذا اقترعوا، قال المبرد : وإنما أخذ من السهام التي تجال للقرعة فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ
أي المغلوبين يقال أدحض اللّه حجته فدحضت أي أزالها فزالت وأصل الكلمة من الدحض الذي هو الزلق، يقال دحضت رجل البعير إذا زلقت، وذكر ابن عباس في قصة يونس


الصفحة التالية
Icon