مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٦٢
لموسى أن يلومه على عمل كتبه اللّه عليه قبل أن يخلقه، فكذلك كل مذنب. فإن صحت هذه الحجة لآدم عليه السلام، فلما ذا قال موسى عليه السلام في الوكزة هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين؟ ولما ذا قال فلن أكون ظهيرا للمجرمين؟ ولما ذا لام فرعون وجنوده على أمر كتبه اللّه عليهم؟ ومن عجيب أمرهم أنهم يكفرون القدرية، وهذا الحديث يوجب أن آدم كان قدريا، فلزمهم أن يكفروه، وكيف يجوز مع قول آدم وحواء عليهما السلام : رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ [الأعراف : ٢٣] أن يحتج على موسى بأنه لا لوم عليه، وقد كتب عليه ذلك قبل أن يخلقه، هذا جملة كلام القاضي فيقال له هب أنك لا تقبل ذلك الخبر، فهل ترد هذه الآية أم لا، فإنا بينا أن صريح هذه الآية يدل على أنه لا تأثير للوساوس في هذا الباب، فإن الكل يحصل بحكمة اللّه تعالى، والذي يدل عليه وجوه الأول : أن الكافر إن ضل بسبب وسوسة الشيطان فضلال الشيطان إن كان بسبب شيطان آخر لزم تسلسل الشياطين وهو محال، وإن انتهى إلى ضلال لم يحصل بسبب وسوسة متقدمة فهو المطلوب الثاني : أن كل أحد يريد أن يحصل لنفسه الاعتقاد الحق والدين الصدق، فحصول ضده يدل على أن ذلك ليس منه الثالث : أن الأفعال موقوفة على الدواعي وحصول الدواعي بخلق اللّه، فيكون الكل / من اللّه تعالى الرابع : أنه تعالى لما اقتضت حكمته شيئا، وعلم وقوعه، فلو لم يقع ذلك الشيء لزم انقلاب ذلك الحكم كذبا وانقلاب ذلك العلم جهلا وهو محال، وأما الآيات التي تمسك بها القاضي فهي معارضة بالآيات الدالة على أن الكل من اللّه والقرآن كالبحر المملوء من هذه الآيات فتبقى الدلائل العقلية التي ذكرناها سليمة، واللّه أعلم.
ثم قال تعالى : وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ فالجمهور على أنهم الملائكة، وصفوا أنفسهم بالمبالغة في العبودية، فإنهم يصطفون للصلاة والتسبيح، والغرض منه التنبيه على فساد قول من يقول إنهم أولاد اللّه وذلك لأن مبالغتهم في العبودية تدل على اعترافهم بالعبودية، واعلم أن هذه الآية تدل على ثلاثة أنواع من صفات الملائكة فأولها : قوله تعالى : وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ وهذا يدل على أن لكل واحد منهم مرتبة لا يتجاوزها ودرجة لا يتعدى عنها، وتلك الدرجات إشارة إلى درجاتهم في التصرف في أجسام هذا العالم وإلى درجاتهم في معرفة اللّه تعالى أما درجاتهم في التصرفات والأفعال فهي قوله : وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ والمراد كونهم صافين في أداء الطاعات ومنازل الخدمة والعبودية، وأما درجاتهم في المعارف فهي قوله تعالى : وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ والتسبيح تنزيه اللّه عما لا يليق به.
واعلم أن قوله : وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ يفيد الحصر ومعناه أنهم هم الصافون في مواقف العبودية لا غيرهم وأنهم هم المسبحون لا غيرهم، وذلك يدل على أن طاعات البشر ومعارفهم بالنسبة إلى طاعات الملائكة وإلى معارفهم كالعدم، حتى يصح هذا الحصر. وبالجملة فهذه الألفاظ الثلاثة تدل على أسرار عجيبة من صفات الملائكة فكيف يجوز مع هذا الحصر أن يقال البشر تقرب درجته من الملك فضلا عن أن يقال هل هو أفضل منه أم لا.
وأما قوله : وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فالمعنى أن مشركي قريش وغيرهم كانوا يقولون : لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً أي كتابا من كتب الأولين الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل لأخلصنا العبادة للّه، ولما كذبنا كما كذبوا. ثم جاءهم الذكر الذي هو سيد الأذكار والكتاب المهيمن على كل الكتب، وهو القرآن فكفروا به. ونظير هذه الآية قوله تعالى : فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً ثم قال تعالى : فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ أي فسوف يعلمون عاقبة هذا الكفر والتكذيب.


الصفحة التالية
Icon