مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٦٩
معناها أنه ليس غرض محمد من هذا القول تقرير الدين، وإنما غرضه أن يستولى علينا فيحكم في أموالنا وأولادنا بما يريد.
ثم قال : ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ والملة الآخرة هي ملة النصارى فقالوا إن هذا التوحيد الذي أتي به محمد صلى اللّه عليه وسلّم ما سمعناه في دين النصارى، أو يكون المراد بالملة الآخرة ملة قريش التي أدركوا آباءهم عليها، ثم قالوا : إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ افتعال وكذب، وحاصل الكلام من هذا الوجه أنهم قالوا نحن ما سمعنا عن أسلافنا القول بالتوحيد، فوجب أن يكون باطلا، ولو كان القول بالتقليد حقا لكان كلام هؤلاء المشركين حقا، وحيث كان باطلا علمنا أن القول بالتقليد باطل.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٨ إلى ١١]
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (١٠) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (١١)
اعلم أن هذا هو الشبهة الثالثة لأولئك الكفار وهي الشبهة المتعلقة بالنبوات وهي قولهم إن محمدا لما كان مساويا لغيره في الذات والصفات والخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنة فكيف يعقل أن يختص هو بهذه الدرجة العالية والمنزلة الشريفة؟ وهو المراد من قولهم : أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا فإنه استفهام على سبيل الإنكار، وحكى اللّه تعالى عن قوم صالح أنهم قالوا مثل هذا القول فقالوا : أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ [القمر : ٢٥] وحكى اللّه تعالى عن قوم محمد صلى اللّه عليه وسلّم أيضا أنهم قالوا : لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف : ٣١] وتمام الكلام في تقرير هذه الشبهة : أنهم قالوا النبوة أشرف المراتب، فوجب أن لا تحصل إلا لأشرف الناس ومحمد ليس أشرف الناس، فوجب أن لا تحصل له والنبوة، والمقدمتان الأوليان حقيتان لكن الثالثة كاذبة وسبب رواج هذا التغليط عليهم أنهم ظنوا أن الشرف لا يحصل إلا بالمال والأعوان وذلك باطل، فإن مراتب السعادة ثلاثة أعلاها هي النفسانية وأوسطها هي البدنية وأدونها هي الخارجية وهي المال والجاه، فالقوم عكسوا القضية وظنوا بأخس المراتب أشرافها فلما وجدوا المال والجاه عند غيره أكثر ظنوا أن غيره أشرف منه، فحينئذ انعقد هذا القياس الفاسد في أفكارهم، ثم إنه تعالى أجاب عن هذه الشبهة من وجوه الأول : قوله تعالى : بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ وفيه وجهان أحدهما : أن قوله : بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي أي من الدلائل التي لو نظروا فيها لزال هذا الشك عنهم وذلك لأن كل ما ذكروه من الشبهات فهي كلمات ضعيفة وأما الدلائل التي تدل بنفسها على صحة نبوته، فهي دلائل قاطعة فلو تأملوا حق التأمل في الكلام لوقفوا على ضعف الشبهات التي تمسكوا بها في إبطال
النبوة، ولعرفوا صحة الدلائل الدالة على صحة نبوته، فحيث لم يعرفوا ذلك كان لأجل أنهم تركوا النظر والاستدلال، فأما قوله تعالى : بَلْ لَمَّا / يَذُوقُوا عَذابِ فموقعه من هذا الكلام أنه تعالى يقول هؤلاء إنما تركوا النظر والاستدلال لأني لم أذقهم عذابي، ولو ذاقوه لم يقع منهم إلا الإقبال على أداء المأمورات والانتهاء عن المنهيات وثانيها :
أن يكون المراد من قوله : بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي هو أن النبي صلى اللّه عليه وسلّم مان يخوفهم من عذاب اللّه لو أصروا


الصفحة التالية
Icon