مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٧٧
بحيث لا يختلط شيء بشيء، وبحيث ينفصل كل مقام عن مقام، وهذا معنى عام يتناول جميع الأقسام واللّه أعلم، وهاهنا آخر الكلام في الصفات العشرة التي ذكرها اللّه تعالى في مدح داود عليه السلام.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٢١ إلى ٢٥]
وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥)
اعلم أن اللّه تعالى لما مدحه وأثنى عليه من الوجوه العشرة أردفه بذكر قصة ليبين بها أن الأحوال الواقعة في هذه القصة لا يبين شيء منها كونه عليه السلام مستحقا للثناء والمدح العظيم.
أما قوله تعالى : وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ فهو نظير قوله تعالى : هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى [طه : ٩] وفائدة هذا الاستفهام التنبيه على جلالة القصة المستفهم عنها، ليكون داعيا إلى الإصغاء لها والاعتبار بها، وأقول للناس في هذه القصة ثلاثة أقوال أحدها : ذكر هذه القصة على وجه يدل على صدور الكبيرة عنه وثانيها :
دلالتها على الصغيرة وثالثها : بحيث لا تدل على الكبيرة ولا على الصغيرة.
فأما القول الأول فحاصل كلامهم فيها : أن داود عشق امرأة أوريا، فاحتال بالوجوه الكثيرة حتى قتل زوجها ثم تزوج بها فأرسل اللّه إليه ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة شبيهة بواقعته، وعرضا تلك الواقعة عليه. فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنبا، ثم تنبه لذلك فاشتغل بالتوبة.
والذي أدين به وأذهب إليه أن ذلك باطل ويدل عليه وجوه الأول : أن هذه الحكاية لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجورا لاستنكف منها والرجل الحشوي الخبيث الذي يقرر تلك القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من ينسبه إليها، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصوم إليه الثاني : أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته أما الأول : فأمر منكر
قال صلى اللّه عليه وسلّم :«من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه»
وأما الثاني : فمنكر عظيم قال صلى اللّه عليه وسلّم :«المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» وإن أوريا لم يسلم من داود لا في روحه ولا في منكوحه والثالث : أن اللّه تعالى وصف داود عليه السلام قبل ذكر هذه القصة بالصفات العشرة المذكورة، ووصفه أيضا بصفات كثيرة بعد ذكر هذه القصة، وكل هذه الصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفا بهذا الفعل المنكر والعمل القبيح، ولا بأس بإعادة هذه الصفات لأجل المبالغة في البيان.
فنقول أما الصفات الأولى : فهي أنه تعالى أمر محمدا صلى اللّه عليه وسلّم بأن يقتدي بداود في المصابرة مع المكابدة، ولو


الصفحة التالية
Icon