مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٧٩
الحكم عقيب الوصف يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف، فلما حكى اللّه تعالى عنه تلك الواقعة القبيحة، ثم قال بعده : إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ أشعر هذا بأن الموجب لتفويض هذه الخلافة هو إتيانه بتلك الأفعال المنكرة، ومعلوم أن هذا فاسد، أما لو / ذكر تلك القصة على وجوه تدل على براءة ساحته عن المعاصي والذنوب وعلى شدة مصابرته على طاعة اللّه تعالى فحينئذ يناسب أن يذكر عقيبه إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ [ص : ٢٦] فثبت أن هذا الذي نختاره أولى والثالث : وهو أنه لما كانت مقدمة الآية دالة على مدح داود عليه السلام وتعظيمه ومؤخرتها أيضا دالة على ذلك، فلو كانت الواسطة دالة على القبائح والمعائب لجرى مجرى أن يقال فلان عظيم الدرجة عالي المرتبة في طاعة اللّه يقتل ويزني ويسرق وقد جعله اللّه خليفة في أرضه وصوب أحكامه، وكما أن هذا الكلام مما لا يليق بالعاقل فكذا هاهنا، ومن المعلوم أن ذكر العشق والسعي في القتل من أعظم أبواب العيوب والرابع : وهو أن القائلين بهذا القول ذكروا في هذه الرواية أن داود عليه السلام تمنى أن يحصل له في الدين كما حصل للأنبياء المتقدمين من المنازل العالية مثل ما حصل للخليل من الإلقاء في النار وحصل للذبيح من الذبح وحصل ليعقوب من الشدائد الموجبة لكثرة الثواب فأوحى اللّه إليه أنهم إنما وجدوا تلك الدرجات لأنهم لما ابتلوا صبروا فعند ذلك سأل داود عليه السلام الابتلاء، فأوحى اللّه إليه أنك ستبلى في يوم كذا فبالغ في الاحتزاز ثم وقعت الواقعة، فنقول أول حكايتهم يدل على أن اللّه تعالى يبتليه بالبلاء الذي يزيد في منقبته ويكمل مراتب إخلاصه فالسعي في قتل النفس بغير الحق والإفراط في العشق كيف يليق بهذه الحالة، ويثبت أن الحكاية التي ذكروها يناقض أولها آخرها (الخامس) : أن داود عليه السلام قال : وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا استثنى الذين آمنوا عن البغي، فلو قلنا إنه كان موصوفا بالبغي لزم أن يقال إنه حكم بعدم الإيمان على نفسه وذلك باطل السادس : حضرت في بعض المجالس وحضر فيه بعض أكابر الملوك وكان يريد أن يتعصب لتقرير ذلك القول الفاسد والقصة الخبيئة لسبب اقتضى ذلك، فقلت له لا شك أن داود عليه السلام كان من أكابر الأنبياء والرسل، ولقد قال اللّه تعالى : اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام : ١٢٤] ومن مدحه اللّه تعالى بمثل هذا المدح العظيم لم يجز لنا أن نبالغ في الطعن فيه، وأيضا فبتقدير أنه ما كان نبيا فلا شك أنه كان مسلما، ولقد قال صلى اللّه عليه وسلّم :«لا تذكروا موتاكم إلا بخير»
ثم على تقدير أنا لا نلتفت إلى شيء من هذه الدلائل إلا أنا نقول إن من المعلوم بالضرورة أن بتقدير أن تكون القصة التي ذكرتموها حقيقية صحيحة فإن روايتها وذكرها لا يوجب شيئا من الثواب، لأن إشاعة الفاحشة إن لم توجب العقاب فلا أقل من أن لا توجب الثواب، وأما بتقدير أن تكون هذه القصة باطلة فاسدة، فإن ذاكرها يستحق أعظم العقاب والواقعة التي هذا شأنها وصفتها، فإن صريح العقل يوجب السكوت عنها فثبت أن الحق ما ذهبنا إليه، وأن شرح تلك القصة محرم محظور فلما سمع ذلك الملك هذا الكلام سكت. ولم يذكر شيئا السابع : أن ذكر هذه القصة، وذكر قصة يوسف عليه السلام يقتضي إشاعة الفاحشة فوجب أن يكون محرما لقوله تعالى :
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا [النور : ١٩] الثامن : لو سعى داود في قتل ذلك الرجل لدخل تحت
قوله :«من سعى / في دم مسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه»
وأيضا لو فعل ذلك لكان ظالما فكان يدخل تحت قوله : أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ التاسع :
عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب عليه السلام قال :«من حدثكم بحديث داود على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين»
وهو حد الفرية على الأنبياء، ومما يقوي هذا أنهم لما قالوا إن المغيرة بن شعبة زنى وشهد


الصفحة التالية
Icon