مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٨١
وأما الاحتمال الثالث : وهو أن هذه القصة على وجه لا يلزم إلحاق الكبيرة والصغيرة بداود عليه السلام، بل يوجب إلحاق أعظم أنواع المدح والثناء به وهو أن نقول
روي أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن يقتلوا نبي اللّه داود عليه السلام، وكان له يوم يخلو فيه بنفسه ويشتغل بطاعة ربه، فانتهزوا الفرصة في ذلك اليوم وتسوروا المحراب، فلما دخلوا عليه وجدوا عنده أقواما يمنعونه منهم فخافوا فوضعوا كذبا، فقالوا خصمان بغى بعضنا على بعض إلى آخر القصة،
وليس في لفظ القرآن ما يمكن أن يحتج به في إلحاق الذنب بداود إلا ألفاظ أربعة أحدها : قوله : وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ، وثانيها : قوله تعالى : فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وثالثها : قوله :
وَأَنابَ ورابعها : قوله : فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ ثم نقول، وهذه الألفاظ لا يدل شيء منها على ما ذكروه، وتقريره من وجوه الأول : أنهم لما دخلوا عليه لطلب قتله بهذا الطريق، وعلم داود عليه السلام ذلك دعاه الغضب إلى أن يشتغل بالانتقام منهم، إلا أنه مال إلى الصفح والتجاوز عنهم طلبا لمرضاة اللّه، قال وكانت هذه الواقعة هي الفتنة لأنها جارية مجرى الابتلاء والامتحان، ثم إنه استغفر ربه مما هم به من الانتقام منهم وتاب عن ذلك الهم وأناب، فغفر له ذلك القدر من الهم والعزم والثاني : أنه وإن غلب على ظنه أنهم دخلوا عليه ليقتلوه، إلا أنه ندم على ذلك الظن، وقال لما لم تقم دلالة ولا أمارة على أن الأمر كذلك، فبئسما علمت بهم حيث ظننت بهم هذا الظن الرديء، فكان هذا هو المراد من قوله : وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ منه فغفر اللّه له ذلك الثالث : أن دخولهم عليه كان فتنة لداود عليه السلام، إلا أنه عليه السلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله، كما قال في حق محمد صلى اللّه عليه وسلّم : وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد : ١٩] فداود عليه السلام استغفر لهم وأناب، أي رجع إلى اللّه تعالى في طلب مغفرة ذلك الداخل القاصد للقتل، وقوله : فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي غفرنا له ذلك الذنب لأجل احترام داود ولتعظيمه، كما قال بعض المفسرين في قوله تعالى :
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ [الفتح : ٢] أن معناه أن اللّه تعالى يغفر لك ولأجلك ما تقدم من ذنب أمتك الرابع : هب أنه تاب داود عليه السلام عن زلة صدرت منه، لكن لا نسلم أن تلك الزلة وقعت بسبب المرأة، فلم لا يجوز أن يقال إن تلك الزلة إنما حصلت، لأنه قضى لأحد الخصمين قبل أن يسمع كلام الخصم الثاني، فإنه / لما قال : لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ فحكم عليه بكونه ظالما بمجرد دعوى الخصم بغير بينة، لكون هذا الحكم مخالفا للصواب، فعند هذا اشتغل بالاستغفار والتوبة، إلا أن هذا من باب ترك الأفضل والأولى «١» فثبت بهذه البيانات أنا إذا حملنا هذه الآيات على هذا الوجه، فإنه لا يلزم إسناد شيء من الذنوب إلى داود عليه السلام، بل ذلك يوجب إسناد أعظم الطاعات إليه، ثم نقول وحمل الآية عليه أولى لوجوه الأول : أن الأصل في حال المسلم البعد عن المناهي، لا سيما وهو رجل من أكابر الأنبياء والرسل والثاني : أنه أحوط والثالث : أنه تعالى قال في أول الآية لمحمد صلى اللّه عليه وسلّم : اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ [ص : ١٧] فإن

(١) أقول : لم لا تكون هذه القصة راجعة إلى قصة الغنم التي نفشت في الزرع وجاء ذكرها في سورة الأنبياء، وقد ذكرت هناك بلفظ الغنم وهنا بلفظ النعاج وفتنة داود كانت بالاجتهاد في الحكم والخطأ فيه وقد نص اللّه على أنه فهمها سليمان عليه السلام، والقاعدة أن من اجتهد في حكم وأخطأ فله أجر، ومن أصاب فله أجران وكأنه عليه السلام لم يدرك هذه القاعدة أو لم يكن العمل عليها في عهده ولهذا استغفر ربه والدلائل على ذلك كثيرة منها ظاهر الآية ولا داعي إلى التأويل بالمرأة أو غيرها، ومنها قوله وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ والتعقيب بقوله تعالى : يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى.


الصفحة التالية
Icon