مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٨٣
لو كانا ملكين لكانا كاذبين في قولهما : خَصْمانِ فإنه ليس بين الملائكة خصومة، ولكانا كاذبين في قولهما :
بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ ولكانا كاذبين في قولهما : إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً فثبت أنهما لو كانا ملكين كاذبين والكذب على الملك غير جائز لقوله تعالى : لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الأنبياء : ٢٧] ولقوله :
وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [النحل : ٥٠] أجاب الذاهبون إلى القول الأول عن هذا الكلام بأن قالوا إن الملكين إنما ذكرا هذا الكلام على سبيل ضرب المثل لا على سبيل التحقيق فلم يلزم الكذب، وأجيب عن هذا الجواب بأن ما ذكرتم يقتضي العدول عن ظاهر اللفظ، ومعلوم أنه على خلاف الأصل، أما إذا حملنا الكلام على أن الخصمين كانا رجلين دخلا عليه لغرض الشر ثم وضعا هذا الحديث الباطل، فحينئذ لزم إسناد الكذب إلى شخصين فاسقين فكان هذا أولى من القول الأول واللّه أعلم، وأما القائلون بكونهما ملكين فقد احتجوا بوجوه الأول :
اتفاق أكثر المفسرين عليه والثاني : أنه أرفع منزلة من أن يتسور عليه آحاد الرعية في حال تعبده فيجب أن يكون ذلك من الملائكة الثالث : أن قوله تعالى : قالُوا لا تَخَفْ كالدلالة على كونهما ملكين لأن من هو من رعيته لا يكاد يقول له مثل ذلك مع رفعة منزلته الرابع : أن قولهما : وَلا تُشْطِطْ كالدلالة على كونهما ملكين لأن أحدا من رعيته لا يتجاسر أن يقول له لا تظلم ولا تتجاوز عن الحق، واعلم أن ضعف هذه الدلائل ظاهر، ولا حاجة إلى الجواب، واللّه أعلم.
المسألة الثالثة : بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ أي تعدى وخرج عن الحد يقال بغى الجرح / إذا أفرط وجعه وانتهى إلى الغاية، ويقال بغت المرأة إذا زنت، لأن الزنا كبيرة منكرة، قال تعالى : وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ [النور : ٣٣] ثم قال : فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ معنى الحكم إحكام الأمر في إمضاء تكليف اللّه عليهما في الواقعة، ومنه حكمة الدابة لأنها تمنع من الجماح، ومنه بناء محكم إذا كان قويا، وقوله : بِالْحَقِّ أي بالحكم الحق وهو الذي حكم اللّه به وَلا تُشْطِطْ يقال شط الرجل إذا بعد، ومنه قوله : شطت الدار إذا بعدت، قال تعالى :
لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً [الكهف : ١٤] أي قولا بعيدا عن الحق، فقوله : وَلا تُشْطِطْ أي لا تبعد في هذا الحكم عن الحق، ثم قال : وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ وسواء الصراط هو وسطه، قال تعالى : فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ [الصافات : ٥٥] ووسط الشيء أفضله وأعدله، قال تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [البقرة :
١٤٣] وأقول إنهم عبروا عن المقصود الواحد بثلاث عبارات أولها : قولهم فاحكم بالحق وثانيها : قولهم : وَلا تُشْطِطْ وهي نهي عن الباطل وثالثها : قولهم : وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ يعني يجب أن يكون سعيك في إيجاد هذا الحق. وفي الاحتراز عن هذا الباطل أن تردنا من الطريق الباطل إلى الطريق الحق، وهذا مبالغة تامة في تقرير المطلوب، واعلم أنهم لما أخبروا عن وقوع الخصومة على سبيل الإجمال أردفوه ببيان سبب تلك الخصومة على سبيل التفصيل، فقال : إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف» أَخِي يدل من هذا أو خبر لقوله : إِنَّ والمراد أخوة الدين أو أخوة الصداقة والألفة أو أخوة الشركة والخلطة، لقوله تعالى : وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ وكل واحدة من هذه الأخوات توجب الامتناع من الظلم والاعتداء.
المسألة الثانية : قال صاحب «الكشاف» قرئ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ بفتح التاء ونعجة بكسر النون، وهذا من اختلاف اللغات نحو نطع ونطع، ولقوة ولقوة وهي الأنثى من العقبان.


الصفحة التالية
Icon