مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٨٨
فثبت بما ذكرنا أنه تعالى ما خلق السماء والأرض وما بينهما باطلا وإذا لم يكن خلقهما باطلا كان القول بالحشر والنشر لازما، وأن كل من أنكر القول بالحشر والنشر كان شاكا في حكمة اللّه في خلق السماء والأرض، وهذا هو المراد من قوله : ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ ولما بين اللّه تعالى على سبيل الإجمال أن إنكار الحشر والنشر يوجب الشك في حكمة اللّه تعالى بين ذلك على سبيل التفصيل، فقال : أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ وتقريره أنا نرى في الدنيا من أطاع اللّه واحترز عن معصيته في الفقر والزمانة وأنواع البلاء، ونرى الكفرة والفساق في الراحة والغبطة، فلو لم يكن حشر ونشر ومعاد فحينئذ يكون حال المطيع أدون من حال العاصي، وذلك لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم، وإذا كان ذلك قادحا في الحكمة، ثبت أن إنكار الحشر والنشر يوجب إنكار حكمة اللّه.
ثم قال تعالى : كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قالت المعتزلة دلت الآية على أنه تعالى إنما أنزل هذا القرآن لأجل الخير والرحمة والهداية، وهذا يفيد أمرين أحدهما : أن أفعال اللّه معللة برعاية المصالح والثاني : أنه تعالى أراد الإيمان والخير والطاعة من الكل بخلاف قول من يقول إنه أراد الكفر من الكافر.
المسألة الثانية : في تقرير نظم هذه الآيات فنقول، لسائل أن يسأل فيقول إنه تعالى حكى في أول السورة عن المستهزئين من الكفار، أنهم بالغوا في إنكار البعث والقيامة، وقالوا : رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص : ١٦] ولما حكى اللّه تعالى عنهم ذلك لم يذكر الجواب، بل قال : اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ [ص : ١٧] ومعلوم أنه لا تعلق لذكر داود عليه السلام بأن القول بالقيامة حق، ثم إنه تعالى أطنب في شرح قصة داود، ثم أتبعه بقوله : وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ ومعلوم أنه لا تعلق لمسألة إثبات حكمة اللّه بقصة داود، ثم لما ذكر إثبات حكمة اللّه وفرع عليه إثبات أن القول بالحشر والنشر حق، ذكر بعده أن القرآن كتاب شريف فاضل كثير النفع والخير، ولا تعلق لهذا الفصل بالكلمات المتقدمة، وإذا كان كذلك كانت هذه الفصول فصولا متباينة لا تعلق للبعض منها بالبعض، فكيف يليق بهذا الموضع وصف القرآن بكونه كتابا شريفا فاضلا؟ هذا تمام السؤال والجواب : أن نقول : أن العقلاء قالوا من ابلى بخصم جاهل مصر متعصب، ورآه قد خاض في ذلك التعصب والإصرار، وجب عليه أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة، لأنه كلما كان خوضه في تقريره أكثر كانت نفرته عن القبول أشد، فالطريق حينئذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة، وأن يخوض في كلام آخر أجنبي عن المسألة الأولى بالكلية ويطنب في ذلك الكلام الأجنبي، بحيث ينسى ذلك المتعصب تلك المسألة الأولى، فإذا اشتغل خاطره بهذا الكلام الأجنبي ونسي المسألة الأولى، فحينئذ يدرج في أثناء الكلام في هذا الفصل الأجنبي مقدمة مناسبة لذلك المطلوب الأول، فإن ذلك المتعصب يسلم هذه المقدمة، فإذا سلمها، فحينئذ يتمسك بها في إثبات المطلوب الأول، وحينئذ يصير ذلك الخصم المتعصب منقطعا مفحما، إذا عرفت هذا فنقول إن الكفار بلغوا في إنكار الحشر والنشر والقيامة إلى
حيث قالوا على سبيل الاستهزاء رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص : ١٦] فقال يا محمد اقطع الكلام معهم في هذه المسألة، واشرع في كلام آخر أجنبي بالكلية عن هذه المسألة، وهي قصة داود عليه السلام، فإن من المعلوم أنه لا تعلق لهذه القصة بمسألة الحشر والنشر، ثم إنه تعالى أطنب في شرح تلك القصة، ثم قال في آخر القصة : يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ


الصفحة التالية
Icon