مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٩١
والمبالغة في إظهار التوبة، فأما أن يقول على سبيل التهور والعظمة لإله العالم ورب العالمين، ردوها على بمثل هذه الكلمة العارية عن كل جهات الأدب عقيب ذلك الجرم العظيم، فهذا لا يصدر عن أبعد الناس عن الخير، فكيف يجوز إسناده إلى الرسول المطهر المكر! الخامس : أن القادر على تحريك الأفلاك والكواكب هو اللّه تعالى فكان يجب أن يقول ردها علي ولا يقول ردوها علي، فإن قالوا إنما ذكر صيغة الجمع للتنبيه على تعظيم المخاطب فنقول قوله : رُدُّوها لفظ مشعر بأعظم أنواع الإهانة فكيف يليق بهذا اللفظ رعاية التعظيم السادس : أن الشمس لو رجعت بعد الغروب لكان ذلك مشاهدا لكل أهل الدنيا ولو كان الأمر كذلك لتوفرت الدواعي على نقله وإظهاره، وحيث لم يقل أحد ذلك علمنا فساده السابع : أنه تعالى قال : إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ ثم قال : حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ وعود الضمير إلى أقرب المذكورين أولى، وأقرب المذكورين هو الصافنات الجياد، وأما العشي فأبعدهما فكان عود ذلك الضمير إلى الصافنات أولى، فثبت بما ذكرنا أن حمل قوله : حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ على تواري الشمس وأن حمل قوله : رُدُّوها عَلَيَّ على أن المراد منه طلب أن يرد اللّه الشمس بعد غروبها كلام في غاية البعد عن النظم.
ثم قال تعالى : فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أي فجعل سليمان عليه السلام يمسح سوقها وأعناقها، قال الأكثرون معناه أنه مسح السيف بسوقها وأعناقها أي قطعها، قالوا إنه عليه السلام لما فاتته صلاة العصر بسبب اشتغاله بالنظر إلى تلك الخيل استردها وعقر سوقها وأعناقها تقربا إلى اللّه تعالى، وعندي أن هذا أيضا بعيد، ويدل عليه وجوه الأول : أنه لو كان معنى مسح السوق والأعناق قطعها لكان معنى قوله : وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ [المائدة : ٦] قطعها، وهذا مما لا يقوله عاقل بل لو قيل مسح رأسه بالسيف فربما فهم منه ضرب العنق، أما إذا لم يذكر لفظ السيف لم يفهم ألبتة من المسح العقر والذبح الثاني : القائلون بهذا القول جمعوا على سليمان عليه السلام أنواعا من الأفعال المذمومة فأولها : ترك الصلاة وثانيها : أنه استولى عليه الاشتغال بحب الدنيا إلى حيث نسي الصلاة، وقال صلي اللّه عليه وسلّم :«حب الدنيا رأس كل خطيئة»
وثالثها :/ أنه بعد الإتيان بهذا الذنب العظيم لم يشتغل بالتوبة والإنابة البتة ورابعها : أنه خاطب رب العالمين بقوله : رُدُّوها عَلَيَّ وهذه كلمة لا يذكرها الرجل الحصيف إلا مع الخادم الخسيس وخامسها : أنه أتبع هذه المعاصي بعقر الخيل في سوقها وأعناقها، وروي عن النبي صلي اللّه عليه وسلّم «نهي عن ذبح الحيوان إلا لمأكله»،
فهذه أنواع من الكبائر نسبوها إلى سليمان عليه السلام مع أن لفظ القرآن لم يدل على شيء منها : وسادسها : أن هذه القصص إنما ذكرها اللّه تعالى عقيب قوله : وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص : ١٧] وأن الكفار لما بلغوا في السفاهة إلى هذا الحد قال اللّه تعالى لمحمد صلي اللّه عليه وسلّم «اصبر يا محمد على سفاهتهم واذكر عبدنا داود : وذكر قصة داود، ثم ذكر عقبيها قصة سليمان، وكان التقدير أنه تعالى قال لمحمد عليه السلام اصبر يا محمد على ما يقولون واذكر عبدنا سليمان، وهذا الكلام إنما يكون لائقا لو قلنا إن سليمان عليه السلام أتى في هذه القصة بالأعمال الفاضلة والأخلاق الحميدة، وصبر على طاعة اللّه، وأعرض عن الشهوات واللذات، فأما لو كان المقصود من قصة سليمان عليه السلام في هذا الموضع أنه أقدم على الكبائر العظيمة والذنوب الجسيمة لم يكن ذكر هذه القصة لائقا بهذا الموضع، فثبت أن كتاب اللّه تعالى ينادي على هذه الأقوال الفاسدة بالرد والإفساد والإبطال بل التفسير المطابق للحق لألفاظ القرآن والصواب أن نقول إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في دينهم


الصفحة التالية
Icon