مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٩٧
وأما القول الأول : فتقريره ما روي أن إبليس سأل ربه، فقال هل في عبيدك من لو سلطتني عليه يمتنع مني؟ فقال اللّه : نعم عبدي أيوب، فجعل يأتيه بوساوسه وهو يرى إبليس عيانا ولا يلتفت إليه، فقال : يا رب إنه قد امتنع على فسلطني على ماله، وكان يجيئه ويقول له : هلك من مالك كذا وكذا، فيقول اللّه أعطى واللّه أخذ، ثم يحمد اللّه، فقال : يا رب إن أيوب لا يبالي بماله فسلطني على ولده، فجاء وزلزل الدار فهلك أولاده بالكلية، فجاءه وأخبره به فلم يلتفت إليه، فقال يا رب لا يبالي بماله وولده فسلطني على جسده، فأذن فيه، فنفخ في جلد أيوب، وحدثت أسقام عظيمة وآلام شديدة فيه، فمكث في ذلك البلاء سنين، حتى صار بحيث استقذره أهل بلده، فخرج إلى الصحراء وما كان يقرب منه أحد، فجاء الشيطان إلى امرأته، وقال لو أن زوجك استعان بي لخلصته من هذا البلاء، فذكرت المرأة ذلك لزوجها، فحلف باللّه لئن عافاه اللّه ليجلدنها مائة جلدة، وعند هذه الواقعة قال :/ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ فأجاب اللّه دعاءه، وأوحى إليه أن ارْكُضْ بِرِجْلِكَ فأظهر اللّه من تحت رجله عينا باردة طيبة فاغتسل منها، فأذهب اللّه عنه كل داء في ظاهره وباطنه، ورد عليه أهله وماله.
والقول الثاني : أن الشيطان لا قدرة له ألبتة على إيقاع الناس في الأمراض والآلام، والدليل عليه وجوه الأول : أنا لو جوزنا حصول الموت والحياة والصحة والمرض من الشيطان، فلعل الواحد منا إنما وجد الحياة بفعل الشيطان، ولعل كل ما حصل عندنا من الخيرات والسعادات، فقد حصل بفعل الشيطان، وحينئذ لا يكون لنا سبيل إلى أن نعرف أن معطي الحياة والموت والصحة والسقم، هو اللّه تعالى الثاني : أن الشيطان لو قدر على ذلك فلم لا يسعى في قتل الأنبياء والأولياء، ولم لا يخرب دورهم، ولم لا يقتل أولادهم الثالث : أنه تعالى حكى عن الشيطان أنه قال : وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [إبراهيم : ٢٢] فصرح بأنه لا قدرة له في حق البشر إلا على إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة، وذلك يدل على قول من يقول إن الشيطان هو الذي ألقاه في تلك الأمراض والآفات، فإن قال قائل : لم لا يجوز أن يقال إن الفاعل لهذه الأحوال هو اللّه تعالى لكن على وفق التماس الشيطان؟ قلنا فإذا كان لا بد من الاعتراف بأن خالق تلك الآلام والأسقام هو اللّه تعالى، فأي فائدة في جعل الشيطان واسطة في ذلك؟ بل الحق أن المراد من قوله : أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ أنه بسبب إلقاء الوساوس الفاسدة والخواطر الباطنة كان يلقيه في أنواع العذاب والعناء، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أن تلك الوساوس كيف كانت وذكروا فيه وجوها الأول : أن علته كانت شديدة الألم، ثم طالت مدة تلك العلة واستقذره الناس ونفروا عن مجاورته، ولم يبق له شيء من الأموال ألبتة.
وامرأته كانت تخدم الناس وتحصل له قدر القوت، ثم بلغت نفرة الناس عنه إلى أن منعوا امرأته من الدخول عليهم ومن الاشتغال بخدمتهم، والشيطان كان يذكره النعم التي كانت والآفات التي حصلت، وكان يحتال في دفع تلك الوساوس، فلما قويت تلك الوساوس في قلبه خاف وتضرع إلى اللّه، وقال : أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ لأنه كلما كانت تلك الخواطر أكثر كان ألم قلبه منها أشد. الثاني : أنها لما طالت مدة المرض جاءه الشيطان وكان يقنطه من ربه ويزين له أن يجزع فخاف من تأكد خاطر القنوط في قلبه فتضرع إلى اللّه تعالى وقال : أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ، الثالث : قيل إن الشيطان لما قال لامرأته لو أطاعني زوجك أزلت عنه هذه الآفات فذكرت المرأة له ذلك، فغلب على ظنه أن الشيطان طمع في دينه فشق ذلك عليه فتضرع إلى اللّه


الصفحة التالية
Icon