مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٣٩٩
ثم قال تعالى : وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ فقد قيل هم عين أهله وزيادة مثلهم، وقيل غيرهم مثلهم، والأول :
أولى لأنه هو الظاهر فلا يجوز العدول عنه من غير ضرورة، ثم اختلفوا فقال بعضهم : معناه أزلنا عنهم السقم فعادوا أصحاء، وقال بعضهم : بل حضروا عنده بعد أن غابوا عنه واجتمعوا بعد أن تفرقوا. وقال بعضهم : بل تمكن منهم وتمكنوا منه فيما يتصل بالعشرة وبالخدمة.
أما قوله : وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ فالأقرب أنه تعالى متعه بصحته وبماله وقواه حتى كثر نسله وصار أهله ضعف ما كان وأضعاف ذلك، وقال الحسن رحمه اللّه : المراد بهبة الأهل أنه تعالى أحياهم بعد أن هلكوا.
ثم قال : رَحْمَةً مِنَّا أي إنما فعلنا كل هذه الأفعال على سبيل الفضل والرحمة، لا على سبيل اللزوم.
ثم قال : وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ يعني سلطنا البلاء عليه أولا فصبر ثم أزلنا عنه البلاء وأوصلناه إلى الآلاء والنعماء، تنبيها لأولي الألباب على أن من صبر ظفر، والمقصود منه التنبيه على ما وقع ابتداء الكلام به وهو قوله لمحمد : اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ وقالت المعتزلة قوله تعالى : رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ يعني إنما فعلناها لهذه الأغراض والمقاصد، وذلك يدل على أن أفعال اللّه وأحكامه معللة بالأغراض والمصالح والكلام في هذا الباب قد مر غير مرة.
أما قوله تعالى : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فهو معطوف على اركض والضغث الحزمة الصغيرة من حشيش أو ريحان أو غير ذلك. واعلم أن هذا الكلام يدل على تقدم يمين منه، وفي الخبر أنه حلف على أهله، ثم اختلفوا في السبب الذي لأجله حلف عليها، ويبعد ما قيل إنها رغبته في طاعة الشيطان، ويبعد أيضا ما روي أنها قطعت الذوائب عن رأسها لأن المضطر إلى الطعام يباح له ذلك بل الأقرب أنها خالفته في بعض المهمات، وذلك أنها ذهبت في بعض المهمات فأبطأت فحلف في مرضه ليضربنها مائة إذا برىء، ولما كانت حسنة الخدمة له لا جرم حلل اللّه يمينه بأهون شيء عليه وعليها، وهذه الرخصة باقية، وعن النبي صلى اللّه عليه وسلّم أنه أتى بمجذم خبث بأمة فقال :
«خذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه به ضربة».
ثم قال تعالى : إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً فإن قيل كيف وجده صابرا وقد شكا إليه، والجواب من وجوه الأول : أنه شكا من الشيطان إليه وما شكا منه إلى أحد الثاني : أن الألم حين كان على الجسد لم يذكر شيئا فلما عظمت الوساوس خاف على القلب والدين فتضرع الثالث : أن الشيطان عدو، والشكاية من العدو إلى الحبيب لا تقدح في الصبر، ثم قال : نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ وهذا يدل على أن تشريف نعم العبد، إنما حصل لكونه أوابا، وسمعت بعضهم قال : لما نزل قوله تعالى : نِعْمَ الْعَبْدُ في حق سليمان عليه السلام تارة، وفي حق أيوب عليه السلام أخرى عظم الغم في قلوب أمة محمد صلى اللّه عليه وسلّم، وقالوا إن قوله تعالى : نِعْمَ الْعَبْدُ في حق سليمان تشريف عظيم، فإن احتجنا إلى اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان حتى بحد هذا التشريف لم نقدر عليه، وإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب لم نقدر عليه، فكيف السبيل إلى تحصيله. فأنزل اللّه تعالى قوله : نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ [الأنفال : ٤٠] والمراد أنك إن لم تكن نعم العبد فأنا نعم المولى وإن كان منك الفضول، فمني الفضل، وإن كان منك التقصير، فمني الرحمة والتيسير.
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٤٥ إلى ٤٨]
وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (٤٥) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (٤٦) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (٤٧) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (٤٨)


الصفحة التالية
Icon