مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٤٠٦
[سورة ص (٣٨) : الآيات ٦٥ إلى ٧٠]
قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٦٥) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٦٦) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (٦٧) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (٦٨) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٦٩)
إِنْ يُوحى إلي إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٧٠)
اعلم أنه تعالى لما حكى في أول السورة أن محمدا صلى اللّه عليه وسلّم لما دعا الناس إلى أنه لا إله إلا اللّه واحد، وإلى أنه رسول مبين من عند اللّه، وإلى أن القول بالقيامة حق، فأولئك الكفار أظهروا السفاهة وقالوا إنه ساحر كذاب واستهزؤا بقوله، ثم إنه تعالى ذكر قصص الأنبياء لوجهين الأول : ليصير ذلك حاملا لمحمد صلى اللّه عليه وسلّم على التأسي بالأنبياء عليهم السلام في الصبر على سفاهة القوم والثاني : ليصير ذلك رادعا للكفار على الإصرار على الكفر والسفاهة وداعيا إلى قبول الإيمان، ولما تمم اللّه تعالى ذلك الطريق أردفه بطريق آخر وهو شرح نعيم أهل الثواب وشرح عقاب أهل العقاب. فلما تمم اللّه تعالى هذه البيانات عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أول السورة وهي تقرير التوحيد والنبوة والبعث، فقال قل يا محمد إنما أنا منذر ولا بد من الإقرار بأنه ما من إله إلا اللّه الواحد القهار، فإن الترتيب الصحيح أن تذكر شبهات الخصوم أولا ويجاب عنها ثم نذكر عقيبها الدلائل الدالة على صحة المطلوب، فكذا هاهنا أجاب اللّه تعالى عن شبهتهم ونبه على فساد كلماتهم، ثم ذكر عقيبه ما يدل على صحة هذه المطالب، لأن إزالة ما لا ينبغي مقدمة على إثبات ما ينبغي، وغسل اللوح من النقوش الفاسدة مقدم على كتب النقوش الصحيحة فيه، ومن نظر في هذا الترتيب اعترف بأن الكلام من أول السورة إلى آخرها قد جاء على أحسن وجوه الترتيب والنظم.
أما قوله : قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ يعني أبلغ أحوال عقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد، وأحوال ثواب من أقربها، وكما بدأ في أول السورة بأدلة التوحيد حيث حكى عنهم أنهم قالوا أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص : ٥] فكذلك بدأ هاهنا بتقرير التوحيد فقال : وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ وفي هذه الكلمة إشارة إلى الدليل الدال على كونه منزها عن الشريك والنظير، وبيانه أن الذي يجعل شريكا له في الإلهية، إما أن يكون موجودا قادرا على الإطلاق على التصرف في العالم أو لا يكون كذلك، بل يكون جمادا عاجزا والأول : باطل لأنه لو كان شريكه قادرا على الإطلاق لم يكن هو قادرا قاهرا، لأن بتقدير أن يريد هو شيئا ويريد شريكه ضد ذلك الشيء لم يكن حصول أحد الأمرين أولى من الآخر، فيفضي إلى اندفاع كل واحد منهما بالآخر، وحينئذ لا يكون قادرا قاهرا بل كان عاجزا ضعيفا، والعاجز لا يصلح للالهية، فقوله : إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ إشارة إلى أن كونه قهارا يدل على كونه واحدا وأما الثاني : وهو أن يقال إن الذي جعل شريكا له لا يقدر على شيء ألبتة مثل هذه الأوثان، فهذا أيضا فاسد لأن صريح العقل يحكم بأن عبادة الإله القادر القاهر أولى من عبادة الجماد الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا فقوله : وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ يدل على هذه الدلائل، واعلم أن كونه سبحانه قهارا مشعر بالترهيب والتخويف، فلما ذكر ذلك أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب


الصفحة التالية
Icon