مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٤١٤
إليك شجرة مثمرة والنار خائنة تفسد كل ما أسلمته إليها الثاني : أن الحس البصري أثنى على النار «١» فليستمع ما يقوله الحس اللمسي الثالث : أن الأرض مستولية على النار فإنها تطفئ النار، وأما النار فإنها لا تؤثر في الأرض الخالصة.
وأما المقدمة الثالثة : فهي أن من كان أصله خيرا من أصله فهو خير منه، فاعلم أن هذه المقدمة كاذبة جدا وذلك لأن أصل الرماد النار وأصل البساتين النزهة والأشجار المثمرة هو الطين ومعلوم بالضرورة أن الأشجار المثمرة خير من الرماد، وأيضا فهب أن اعتبار هذه الجهة يوجب الفضيلة إلا أن هذا يمكن أن يصير معارضا بجهة أخرى توجب الرجحان مثل إنسان نسيب عار عن كل الفضائل فإن نسبه يوجب رجحانه، إلا أن الذي لا يكون نسبيا قد يكون كثير العلم والزهد فيكون هو أفضل من ذلك النسيب بدرجات لا حد لها، فالمقدمة الكاذبة في القياس الذي ذكره إبليس هو هذه المقدمة، فإن قال قائل هب أن إبليس أخطأ في هذا القياس لكن كيف لزمه الكفر من تلك المخالفة؟ وبيان هذا السؤال من وجوه الأول : أن قوله : اسْجُدُوا أمر والأمر لا يقتضي الوجوب بل الندب ومخالفة الندب لا توجب العصيان فضلا عن الكفر، وأيضا فالذين يقولون إن الأمر للوجوب فهم لا ينكرون كونه محتملا لندب احتمالا ظاهرا ومع قيام هذا الاحتمال الظاهر كيف يلزم العصيان فضلا عن الكفر الثاني : هب أنه للوجوب إلا أن إبليس ما كان من الملائكة فأمر الملائكة بسجود آدم لا يدخل فيه إبليس الثالث : هب أنه يتناوله إلا أن تخصيص العام بالقياس جائز فخصص نفسه عن عموم ذلك الأمر بالقياس الرابع :
هب أنه لم يسجد مع علمه بأنه كان مأمورا به إلا أن هذا القدر يوجب العصيان ولا يوجب الكفر فكيف لزمه الكفر والجواب : هب أن صيغة الأمر لا تدل على الوجوب ولكن يجوز أن ينضم إليها من القرائن ما يدل على الوجوب، وهاهنا حصلت تلك القرائن وهي قوله تعالى : أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ فلما أتى إبليس بقياسه الفاسد دل ذلك على أنه إنما ذكر ذلك القياس ليتوسل به إلى القدح في أمر اللّه وتكليفه وذلك يوجب الكفر. إذا عرفت هذا فنقول إن إبليس لما ذكر هذا القياس الفاسد قال تعالى : فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ.
واعلم أنه ثبت في أصول الفقه أن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على كون ذلك الحكم معللا بذلك الوصف وهاهنا الحكم بكونه رجيما ورد عقيب ما حكى عنه أنه خصص النص بالقياس، فهذا يدل على أن تخصيص النص بالقياس يوجب هذا الحكم، وقوله : مِنْها أي من الجنة أو من السموات والرجيم المرجوم وفيه قولان :
الأول : أنه مجاز عن الطرد، لأن الظاهر أن من طرد فقد يرمى بالحجارة وهو الرجم فلما كان الرجم من لوازم الطرد جعل الرجم كناية عن الطرد فإن قالوا الطرد هو اللعن فلو حملنا قوله : رَجِيمٌ على الطرد لكان قوله بعد ذلك وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي تكرارا والجواب من وجهين الأول : أنا نحمل الرجم على الطرد من الجنة أو من السموات ونحمل اللعن على الطرد من رحمة اللّه والثاني : أنا نحمل الرجم على الطرد ونحمل قوله :

(١) العبارة مصحفة لأن الحس البصري فيما نعلم لم يثن على النار وإنما يتأذى به كما أن الحس اللمسي يحترق بالنار. ولعله نظر إلى المعنى من ناحية أخرى هي أن فضل النار لم يظهره إلا البصر واللمس وهما من طبيعة الأرض. فبسببهما بان فضل الأرض على النار.


الصفحة التالية
Icon