مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٤١٩
وأما الثاني : فقوله : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ [الحجر : ٩] وقال : وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء : ١٠٥] وأنت تعلم أن كونه منزلا أقرب إلى الحقيقة من كونه تنزيلا، فكونه منزلا مجاز أيضا لأنه إن كان المراد من القرآن الصفة القائمة بذات اللّه فهو لا يقبل الانفصال والنزول، وإن كان المراد منه الحروف والأصوات فهي أعراض لا تقبل الانتقال والنزول، بل المراد من النزول نزول الملك الذي بلغها إلى الرسول صلى اللّه عليه وسلّم.
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة العزيز هو القادر الذي لا يغلب فهذا اللفظ يدل على كونه تعالى قادرا على ما لا نهاية له والحكيم هو الذي يفعل لداعية الحكمة لا لداعية الشهوة، وهذا إنما يتم إذا ثبت أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، وأنه غني عن جميع الحاجات إذا ثبت هذا فنقول كونه تعالى : عزيزا حكيما يدل على هذه الصفات الثلاثة، العلم بجميع المعلومات، والقدرة على كل الممكنات، والاستغناء عن كل الحاجات، فمن كان كذلك امتنع أن يفعل القبيح وأن يحكم بالقبيح، وإذا كان كذلك فكل ما يفعله يكون حكمة وصوابا.
إذا ثبت هذا فنقول الانتفاع بالقرآن يتوقف على أصلين أحدهما : أن يعلم أن القرآن كلام اللّه، والدليل عليه أنه ثبت بالمعجز كون الرسول صادقا، وثبت بالتواتر أنه كان يقول القرآن كلام اللّه فيحصل من مجموع هاتين المقدمتين أن القرآن كلام اللّه والأصل الثاني : أن اللّه أراد بهذه الألفاظ المعاني التي هي موضوعة لها، أم بحسب اللغة أو بحسب القرينة العرفية أو الشرعية لأنه لو لم يرد بها ذلك لكان تلبيسا، وذلك لا يليق بالحكيم فثبت بما ذكرنا أن الانتفاع بالقرآن لا يحصل إلا بعد تسليم هذين الأصلين، وثبت أنه لا سبيل إلى إثبات هذين الأصلين إلا بإثبات كونه تعالى حكيما، وثبت أن لا سبيل / إلى إثبات كونه حكيما إلا بالبناء على كونه تعالى عزيزا، فلهذا السبب قال : تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
أما قوله تعالى : إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ففيه سؤالان :
السؤال الأول : لفظ التنزيل يشعر بأنه تعالى أنزله عليه نجما نجما على سبيل التدريج ولفظ الإنزال يشعر بأنه تعالى أنزله عليه دفعة واحدة فكيف الجمع بينهما والجواب : إن صح الفرق بين التنزيل وبين الإنزال من الوجه الذي ذكرتم فطريق الجمع أن يقال المعنى إنا حكمنا حكما كليا جزما بأن يوصل إليك هذا الكتاب، وهذا هو الإنزال، ثم أوصلناه نجما نجما إليك على وفق المصالح وهذا هو التنزيل.
السؤال الثاني : ما المراد من قوله : إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ؟ والجواب : فيه وجهان الأول :
المراد أنزلنا الكتاب إليك ملتبسا بالحق والصدق والصواب على معنى كل ما أودعناه فيه من إثبات التوحيد والنبوة والمعاد، وأنواع التكاليف فهو حق وصدق يجب العمل به والمصير إليه الثاني : أن يكون المراد إنا أنزلنا إليك الكتاب بناء على دليل حق دل على أن الكتاب نازل من عند اللّه، وذلك الدليل هو أن الفصحاء عجزوا عن معارضته، ولو لم يكن معجزا لما عجزوا عن معارضته.
ثم قال : فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى لما بين في قوله : إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ أن هذا الكتاب مشتمل على الحق والصدق والصواب أردف هنا بعض ما فيه من الحق والصدق وهو أن يشتغل الإنسان بعبادة اللّه تعالى على سبيل الإخلاص ويتبرأ عن عبادة غير اللّه تعالى بالكلية، فأما اشتغاله بعبادة اللّه تعالى على سبيل الإخلاص فهو