مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٤٢٣
[في قوله تعالى خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ إلى قوله أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ] اعلم أن الآية المتقدمة دلت على أنه تعالى بين كونه منزها عن الولد بكونه إلها واحدا وقهارا غالبا أي كامل القدرة، فلما بنى تلك المسألة على هذه الأصول ذكر عقيبها ما يدل على كمال القدرة وعلى كمال الاستغناء، وأيضا فإنه تعالى طعن في إلهية الأصنام فذكر عقيبها الصفات التي باعتبارها تحصل الإلهية، واعلم أنا بينا في مواضع من هذا الكتاب أن الدلائل التي ذكرها اللّه تعالى في / إثبات إلهيته، إما أن تكون فلكية أو عنصرية، أما الفلكية فأقسام أحدها : خلق السموات والأرض، وهذا المعنى يدل على وجود الإله القادر من وجوه كثيرة شرحناها في تفسير قوله تعالى : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ [الأنعام : ١] والثاني :
اختلاف أحوال الليل والنهار وهو المراد هاهنا من قوله : يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وذلك لأن النور والظلمة عسكران مهيبان عظيمان، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك تارة، وذاك هذا أخرى. وذلك يدل على أن كل واحد منهما مغلوب مقهور، ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان. تحت تدبيره وقهره وهو اللّه سبحانه وتعالى، والمراد من هذا التكوير أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص عن الآخر، والمراد من تكوير الليل والنهار ما
ورد في الحديث «نعوذ باللّه من الحور بعد الكور»
أي من الإدبار بعد الإقبال، واعلم أنه سبحانه وتعالى عبر عن هذا المعنى بقوله : يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وبقوله : يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ [الأعراف :
٥٤] وبقوله : يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ [فاطر : ١٣] وبقوله : وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ [الفرقان : ٦٢] والثالث : اعتبار أحوال الكواكب لا سيما الشمس والقمر، فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل، وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما وقوله : كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى الأجل المسمى يوم القيامة، لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا، ونظيره قوله تعالى : وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [القيامة : ٩] والمراد من هذا التسخير أن هذه الأفلاك تدور كدوران المنجنون على حد واحد إلى يوم القيامة وعنده تطوى السماء كطي السجل للكتب.
ولما ذكر اللّه هذه الأنواع الثلاثة من الدلائل الفلكية قال : أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ والمعنى أن خلق هذه الأجرام العظيمة وإن دل على كونه عزيزا أي كامل القدرة إلا أنه غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان، فإنه لما كان الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة فكونه غفارا يوجب كثرة الرحمة، وكثرة الرحمة توجب الرجاء والرغبة، ثم إنه تعالى أتبع ذكر الدلائل الفلكية بذكر الدلائل المأخوذة من هذا العالم الأسفل، فبدأ بذكر الإنسان فقال : خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها ودلالة تكون الإنسان على الإله المختار قد سبق بيانها مرارا كثيرة، فإن قيل كيف جاز أن يقول : خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها والزوج مخلوق قبل خلقهم؟ أجابوا عنه من وجوه الأول : أن كلمة ثم كما تجيء لبيان كون إحدى


الصفحة التالية
Icon