مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٤٢٩
عبارة عن كون الرجل قائما بما يجب عليه من الطاعات، وذلك يدل على أن العمل إنما يفيد إذا واظب عليه الإنسان، وقوله : ساجِداً وَقائِماً إشارة إلى أصناف الأعمال وقوله : يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ إشارة إلى أن الإنسان عند المواظبة ينكشف له في الأول مقام القهر وهو قوله : يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ثم بعده مقام الرحمة وهو قوله : وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ ثم يحصل أنواع المكاشفات وهو المراد بقوله : هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.
الفائدة الثالثة : أنه قال في مقام الخوف يَحْذَرُ الْآخِرَةَ فما أضاف الحذر إلى نفسه، وفي مقام الرجاء أضافه إلى نفسه، وهذا يدل على أن جانب الرجاء أكمل وأليق بحضرة اللّه تعالى.
المسألة الثالثة : قيل المراد من قوله : أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ عثمان لأنه كان يحيي الليل في ركعة واحدة ويقرأ القرآن في ركعة واحدة، والصحيح أن المراد منه كل من كان موصوفا بهذه الصفة فيدخل فيه عثمان وغيره لأن الآية غير مقتصرة عليه.
المسألة الرابعة : لا شبهة في أن في الكلام حذفا، والتقدير أمن هو قانت كغيره، وإنما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه، لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية الكافر وذكر بعدها : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ وتقدير الآية قل هل يستوي الذين يعلمون وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل سجدا وقياما، والذين لا يعلمون وهم الذين وصفهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغة يشركون، فإذا قدرنا هذا التقدير ظهر المراد وإنما وصف اللّه الكفار بأنهم لا يعلمون، لأنهم وإن آتاهم اللّه آلة العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم، فلهذا السبب جعلهم كأنهم ليسوا أولي الألباب من حيث إنهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم.
وأما قوله تعالى : قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ فهو تنبيه عظيم على فضيلة العلم، وقد بالغنا في تقرير هذا المعنى في تفسير قوله تعالى : وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة : ٣١] قال صاحب «الكشاف» أراد بالذين يعلمون الذين سبق ذكرهم وهم القانتون، وبالذين لا يعلمون الذين لا يأتون بهذا العمل كأنه جعل القانتين هم العلماء، وهو تنبيه على أن من يعمل فهو غير عالم، ثم قال وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون العلوم ثم لا يقنتون، ويفتنون فيها ثم يفتنون بالدنيا فهم عند اللّه جهلة.
ثم قال تعالى : إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ يعني هذا التفاوت العظيم الحاصل بين العلماء والجهال لا يعرفه أيضا إلا أولوا الألباب، قيل لبعض العلماء : إنكم تقولون العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء يجتمعون عند أبواب الملوك، ولا نرى الملوك مجتمعين عند أبواب العلماء، فأجاب العالم بأن هذا أيضا يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٠ إلى ١٦]
قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (١١) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (١٢) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (١٤)
فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١٥) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (١٦)


الصفحة التالية
Icon