مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٤٣٤
ولما شرح اللّه تعالى أحوال حرمانهم عن الربح وبين كيفية خسرانهم، بين أنهم لم يقتصروا على الحرمان والخسران، بل ضموا إليه استحقاق العذاب العظيم والعقاب الشديد، فقال : لَهُمْ مِنْ / فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ والمراد إحاطة النار بهم من جميع الجوانب، ونظيره في الأحوال النفسانية إحاطة الجهل والحرمان والحرص وسائر الأخلاق الذميمة بالإنسان، فإن قيل الظلل ما على الإنسان فكيف سمى ما تحته بالظلل؟ والجواب من وجوه الأول : أنه من باب إطلاق اسم أحد الضدين على الآخر كقوله : وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى : ٤٠]، الثاني : أن الذي يكون تحته يكون ظلة لإنسان آخر تحته لأن النار دركات كما أن الجنة درجات والثالث : أن الظلة التحتانية إذا كانت مشابهة للظلة الفوقانية في الحرارة والإحراق والإيذاء، أطلق اسم أحدهما على الآخر لأجل المماثلة والمشابهة. قال الحسن هم بين طبقتين من النار لا يدرون ما فوقهم أكثر مما تحتهم، ونظير هذه الآية قوله تعالى : يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [العنكبوت : ٥٥] وقوله تعالى : لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف : ٤١].
ثم قال تعالى : ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ أي ذلك الذي تقدم ذكره من وصف العذاب فقوله : ذلِكَ مبتدأ وقوله : يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ خبر، وفي قوله : يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ قولان الأول : التقدير ذلك العذاب المعد للكفار هو الذي يخوف اللّه به عباده أي المؤمنين، لأنا بينا أن لفظ العباد في القرآن مختص بأهل الإيمان وإنما كان تخويفا للمؤمنين لأجل أنهم إذا سمعوا أن حال الكفار ما تقدم خافوا فأخلصوا في التوحيد والطاعة الوجه الثاني : أن هذا الكلام في تقدير جواب عن سؤال، لأنه يقال إنه تعالى غني عن العالمين منزه عن الشهوة والانتقام وداعية الإيذاء، فكيف يليق به أن يعذب هؤلاء المساكين إلى هذا الحد العظيم، وأجيب عنه بأن المقصود منه تخويف الكفار والضلال عن الكفر والضلال، فإذا كان التكليف لا يتم إلا بالتخويف والتخويف لا يكمل الانتفاع به إلا بإدخال ذلك الشيء في الوجود وجب إدخال ذلك النوع من العذاب في الوجود تحصيلا لذلك المطلوب الذي هو التكليف، والوجه الأول عندي أقرب، والدليل عليه أنه قال بعده :
يا عِبادِ فَاتَّقُونِ وقوله : يا عِبادِ الأظهر منه أن المراد منه المؤمنون فكأنه قيل المقصود من شرح عذاب الكفار للمؤمنين تخويف المؤمنين فيا أيها المؤمنون بالغوا في الخوف والحذر والتقوى.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ١٧ إلى ٢٠]
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (١٧) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٨) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (١٩) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (٢٠)
اعلم أن اللّه تعالى لما ذكر وعيد عبدة الأصنام والأوثان ذكر وعد من اجتنب عبادتها واحترز عن الشرك، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد أبدا فيحصل كمال الترغيب والترهيب، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف» : الطاغوت فعلوت من الطغيان كالملكوت والرحموت إلا أن فيها


الصفحة التالية
Icon