مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٤٣٦
الأسباب، فهذا هو الكلام في تحقيق الإعراض عن غير اللّه والإقبال بالكلية على اللّه تعالى فقوله تعالى :
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ إشارة إلى الإعراض عن غير اللّه وقوله تعالى : وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ إشارة إلى الإقبال بالكلية على عبادة اللّه، ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها : قوله تعالى : لَهُمُ الْبُشْرى واعلم أن هذه الكلمة تتعلق بجهات أحدها : أن هذه البشارة متى تحصل؟ فنقول إنها تحصل عند القرب من الموت وعند الوضع في القبر وعند الوقوف في عرصة القيامة وعند ما يصير فريق في الجنة وفريق في السعير وعند ما يدخل المؤمنون الجنة، ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل البشارة بنوع من الخير والروح والراحة والريحان وثانيها : أن هذه البشارة فبما ذا تحصل؟ فنقول إن هذه البشارة تحصل بزوال المكروهات وبحصول المرادات، أما زوال المكروهات فقوله تعالى : أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا [فصلت : ٣٠] والخوف إنما يكون من المستقبل والحزن إنما يكون بسبب الأحوال الماضية فقوله : أَلَّا تَخافُوا يعني لا تخافوا فيما تستقبلونه من أحوال القيامة ولا تحزنوا بسبب ما فاتكم من خيرات الدنيا، ولما أزال اللّه عنهم هذه المكروهات بشرهم بحصول الخيرات والسعادات فقال : وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فصلت : ٣٠] وقال أيضا في آية أخرى : يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ [الحديد : ١٢] وقال أيضا : وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [الزخرف : ٧١] والثالث : أن المبشر من هو؟ فنقول يحتمل أن يكون هم الملائكة، إما عند الموت فقوله : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [النحل : ٣٢] وإما بعد دخول الجنة فقوله : الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ
عُقْبَى الدَّارِ [الرعد : ٢٣، ٢٤] ويحتمل أن يكون هو اللّه سبحانه كما قال : تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ [الأحزاب : ٤٤].
واعلم أن قوله : لَهُمُ الْبُشْرى فيه أنواع من التأكيدات أحدها : أنه يفيد الحصر فقوله : لَهُمُ الْبُشْرى أي لهم لا لغيرهم، وهذا يفيد أنه لا بشارة لأحد إلا إذا اجتنب عبادة غير اللّه تعالى وأقبل بالكلية على اللّه تعالى وثانيها : أن الألف واللام في لفظ البشرى مفيد للماهية فيفيد أن هذه الماهية بتمامها لهؤلاء، ولم يبق منها نصيب لغيرهم وثالثها : أن لا فرق بين الإخبار وبين البشارة فالبشارة هو الخبر الأول بحصول الخيرات، إذا عرفت هذا فنقول كل ما سمعوه في الدنيا من أنواع الثواب والخير إذا سمعوه عند الموت أو في القبر فذاك لا يكون إلا إخبارا، فثبت أن هذه البشارة لا تتحقق إلا إذا حصل الإخبار بحصول أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها وسمعوها في الدنيا نسأل اللّه تعالى الفوز بها، قال تعالى : فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [السجدة : ١٧] ورابعها : أن المخبر بقوله : لَهُمُ الْبُشْرى هو اللّه تعالى وهو أعظم العظماء وأكمل الموجودات والشرط المعتبر في حصول هذه البشارة شرط عظيم وهو الاجتناب عما سوى اللّه تعالى والإقبال بالكلية على اللّه والسلطان العظيم إذا ذكر شرطا عظيما. ثم قال لمن أتى بذلك الشرط العظيم أبشر فهذه البشارة الصادرة من السلطان العظيم المرتبة على حصول ذلك الشرط العظيم تدل على أن الذي وقعت البشارة به قد بلغ في الكمال والرفعة إلى حيث لا يصل إلى شرحها العقول والأفكار، فثبت أن قوله : لَهُمُ الْبُشْرى يدل على نهاية الكمال والسعادة من هذه الوجوه واللّه أعلم.
واعلم أنه تعالى : لما قال : لَهُمُ الْبُشْرى وكان هذا كالمجمل أردفه بكلام يجري مجرى التفسير


الصفحة التالية
Icon