مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٤٣٨
واعلم أنه تعالى حكم على الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه بأن قال : أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ وفي ذلك دقيقة عجيبة، وهي أن حصول الهداية في العقل والروح أمر حادث، ولا بد له من فاعل وقابل. أما الفاعل فهو اللّه سبحانه وهو المراد من قوله : أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وأما القابل فإليه الإشارة بقوله : وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ فإن الإنسان ما لم يكن عاقلا كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقية في قلبه. وإنما قلنا إن الفاعل لهذه الهداية هو اللّه، وذلك لأن جوهر النفس مع ما فيها من نور العقل قابل للاعتقاد الحق والاعتقاد الباطل، وإذا كان الشيء قابلا للضدين كانت نسبة ذلك القابل إليهما على السوية، ومتى كان الأمر كذلك امتنع كون ذلك القابل سببا لرجحان أحد الطرفين، ألا ترى أن الجسم لما كان قابلا للحركة والسكون على السوية، امتنع أن تصير ذات الجسم سببا لرجحان أحد الطرفين على الآخر، فإن قالوا لا نقول إن ذات النفس والعقل يوجب هذا الرجحان، بل نقول إنه يريد تحصيل أحد الطرفين، فتصير تلك الإرادة سببا لذلك الرجحان، فنقول هذا باطل، لأن ذات النفس كما أنها قابلة لهذه الإرادة، فكذلك ذات العقل قابلة لإرادة مضادة لتلك الإرادة، فيمتنع كون جوهر النفس سببا لتلك الإرادة، فثبت أن حصول الهداية لا بد لها من فاعل ومن قابل أما الفاعل : فيمتنع أن يكون هو النفس، بل الفاعل هو اللّه تعالى وأما القابل : فهو جوهر النفس، فلهذا السبب قال : أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ ثم قال : أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ / وفيه مسائل :
المسألة الأولى : في لفظ الآية سؤال وهو أنه يقال إنه قال : أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ ولا يصح في الكلام العربي أن يدخل حرف الاستفهام على الإسم وعلى الخبر معا، فلا يقال أزيد أتقتله، بل هاهنا شيء آخر، وهو أنه كما دخل حرف الاستفهام على الشرط وعلى الجزاء، فكذلك دخل حرف الفاء عليهما معا وهو قوله : أَفَمَنْ حَقَّ، أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ ولأجل هذا السؤال اختلف النحويون وذكروا فيه وجوها الأول : قال الكسائي : الآية جملتنا والتقدير أفمن حق عليه كلمة العذاب، أفأنت تحميه، أفأنت تنقذ من في النار الثاني : قال صاحب «الكشاف» : أصل الكلام أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه، وهي جملة شرطية دخل عليها همزة الإنكار والفاء فاء الجزاء، ثم دخلت الفاء التي في أولها للعطف على محذوف يدل عليه الخطاب والتقدير أأنت مالك أمرهم، فمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه، والهمزة الثانية هي الأولى كررت لتوكيد معنى الإنكار والاستبعاد، ووضع من في النار موضع الضمير، والآية على هذا جملة واحدة الثالث : لا يبعد أن يقال إن حرف الاستفهام إنما ورد هاهنا لإفادة معنى الإنكار، ولما كان استنكاره هذا / المعنى كاملا تاما. لا جرم ذكر هذا الحرف في الشرط وأعاده في الجزاء تنبيها على المبالغة التامة في ذلك الإنكار.
المسألة الثانية : احتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة الهدى والضلال، وذلك لأنه تعالى قال : أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ فإذا حقت كلمة العذاب عليه امتنع منه فعل الإيمان والطاعة، وإلا لزم انقلاب خبر اللّه الصدق كذبا، وانقلاب علمه جهلا وهو محال والوجه الثاني : في الاستدلال بالآية أنه تعالى حكم بأن حقية كلمة العذاب توجب الاستنكار التام من صدور الإيمان والطاعة عنه، ولو كان ذلك ممكنا ولم تكن حقيقة كلمة العذاب مانعة منه لم يبق لهذا الاستنكار والاستبعاد معنى.
المسألة الثالثة : احتج القاضي بهذه الآية على أن النبي صلى اللّه عليه وسلّم لا يشفع لأهل الكبائر، قال لأنه حق عليهم


الصفحة التالية
Icon