مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٤٤٦
الصفة الثانية : من صفات القرآن قوله تعالى كِتاباً مُتَشابِهاً أما الكتاب فقد فسرناه في قوله تعالى : ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة : ٢] وأما كونه متشابها فاعلم أن هذه الآية تدل على أن القرآن كله متشابه. وقوله : هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [آل عمران : ٧] يدل على كون البعض متشابها دون البعض. وأما كونه كله متشابها كما في هذه الآية، فقال ابن عباس : معناه أنه يشبه بعضه بعضا، وأقول هذا التشابه يحصل في أمور أحدها : أن الكاتب البليغ إذا كتب كتابا طويلا، فإنه يكون بعض كلماته فصيحا، ويكون البعض غير فصيح، والقرآن يخالف ذلك فإنه فصيح كامل الفصاحة بجميع أجزائه وثانيها : أن الفصيح إذا كتب كتابا في واقعة بألفاظ فصيحة فلو كتب كتابا آخر في غير تلك الواقعة كان الغالب أن كلامه في الكتاب الثاني غير كلامه في الكتاب الأول، واللّه تعالى حكى قصة موسى عليه السلام في مواضع كثيرة من القرآن وكلها متساوية متشابهة في الفصاحة وثالثها : أن كل ما فيه من الآيات والبيانات فإنه يقوي بعضها بعضا ويؤكد بعضها بعضا ورابعها : أن هذه الأنواع الكثيرة من العلوم التي عددناها متشابهة متشاركة في أن المقصود منها بأسرها الدعوة إلى / الدين وتقرير عظمة اللّه، ولذلك فإنك لا ترى قصة من القصص إلا ويكون محصلها المقصود الذي ذكرناه، فهذا هو المراد من كونه متشابها، واللّه الهادي.
الصفة الثالثة : من صفات القرآن كونه مثاني وقد بالغنا في تفسير هذه اللفظة عند قوله تعالى : وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي [الحجر : ٨٧] وبالجملة فأكثر الأشياء المذكورة وقعت زوجين زوجين مثل : الأمر والنهي، والعام والخاص، والمجمل والمفصل، وأحوال السموات والأرض، والجنة والنار، والظلمة والضوء، واللوح والقلم، والملائكة والشياطين، والعرش والكرسي، والوعد والوعيد، والرجاء والخوف، والمقصود منه بيان أن كل ما سوى الحق زوج ويدل على أن كل شيء مبتلى بضده ونقيضه وأن الفرد الأحد الحق هو اللّه سبحانه.
الصفة الرابعة : من صفات القرآن قوله : تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : معنى تقشعر جلودهم تأخذهم قشعريرة وهي تغير يحدث في جلد الإنسان عند الوجل والخوف، قال المفسرون : والمعنى أنهم عند سماع آيات الرحمة والإحسان يحصل لهم الفرح فتلين قلوبهم إلى ذكر اللّه، وأقول إن المحققين من العارفين قالوا : السائرون في مبدأ إجلال اللّه إن نظروا إلى عالم الجلال طاشوا، وإن لاح لهم أثر من عالم الجمال عاشوا، ويجب علينا أن نذكر في هذا الباب مزيد شرح وتقرير، فنقول الإنسان إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب تنزيه اللّه عن التحيز والجهة. فهنا يقشعر جلده، لأن إثبات موجود لا داخل العالم ولا خارج ولا متصل بالعالم ولا منفصل عن العالم، مما يصعب تصوره فههنا تقشعر الجلود، أما إذا تأمل في الدلائل الدالة على أنه يجب أن يكون فردا أحدا، وثبت أن كل متحيز فهو منقسم فههنا يلين جلده وقلبه إلى ذكر اللّه. وأيضا إذا أراد أن يحيط عقله بمعنى الأزل فيتقدم في ذهنه بمقدار ألف ألف سنة ثم يتقدم أيضا بحسب كل لحظة من لحظات تلك المدة ألف ألف سنة، ولا يزال يحتال ويتقدم ويتخيل في الذهن، فإذا بالغ وتوغل وظن أنه استحضر معنى الأزل قال العقل هذا ليس بشيء، لأن كل ما استحضرته في فهو متناه والأزل هو الوجود المتقدم على هذه المدة المتناهية، فههنا يتحير العقل ويقشعر الجلد، وأما إذا ترك


الصفحة التالية
Icon