مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٤٤٩
ثم قال تعالى : وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ولما بين اللّه تعالى كيفية عذاب القاسية قلوبهم في الآخرة بين أيضا كيفية وقوعهم في العذاب في الدنيا فقال : كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ وهذا تنبيه على حال هؤلاء لأن الفاء في قوله : فَأَتاهُمُ الْعَذابُ تدل على أنهم إنما أتاهم العذاب بسبب التكذيب، فإذا كان التكذيب حاصلا هاهنا لزم حصول العذاب استدلالا بالعلة على المعلول، وقوله :
مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ أي من الجهة التي لا يحسبون ولا يخطر ببالهم أن الشر يأتيهم منها، بينما هم آمنون إذ أتاهم العذاب من الجهة التي توقعوا الأمن منها، ولما بين أنه أتاهم العذاب في الدنيا بين أيضا أنه أتاهم الخزي وهو الذل والصغار والهوان، والفائدة في ذكر هذا القيد أن العذاب التام هو أن يحصل فيه الألم مقرونا بالهوان والذل.
ثم قال : وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يعني أن أولئك وإن نزل عليهم العذاب والخزي كما تقدم ذكره، فالعذاب المدخر لهم في يوم القيامة أكبر وأعظم من ذلك الذي وقع. والمقصود من كل ذلك التخويف والترهيب، فلما ذكر اللّه تعالى هذه الفوائد المتكاثرة والنفائس المتوافرة في هذه المطالب، بين تعالى أنه بلغت هذه البيانات إلى حد الكمال والتمام فقال : وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ والمقصود ظاهر، وقالت المعتزلة دلت الآية على أن أفعال اللّه وأحكامه معللة، ودلت أيضا على أنه يريد الإيمان والمعرفة من الكل لأن قوله : وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ مشعر بالتعليل، وقوله في آخر الآية : لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ مشعر بالتعليل أيضا، ومشعر بأن المقصود من ضرب هذه الأمثال إرادة حصول التذكر والعلم، ولما كانت هذه البيانات النافعة والبينات الباهرة موجودة في القرآن، لا جرم وصف القرآن بالمدح والثناء، فقال :
قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج القائلون بحدوث القرآن بهذه الآية من وجوه الأول : أن قوله : وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يدل على أنه تعالى إنما ذكر هذه الأمثال ليحصل لهم التذكر، والشيء الذي يؤتى به لغرض آخر يكون محدثا، فإن القديم هو الذي يكون موجودا في الأزل، وهذا يمتنع أن يقال إنه إنما أتى به لغرض كذا وكذا، / والثاني : أنه وصفه بكونه عربيا وإنما كان عربيا لأن هذه الألفاظ إنما صارت دالة على هذه المعاني بوضع العرب وباصطلاحهم، وما كان حصوله بسبب أوضاع العرب واصطلاحاتهم كان مخلوقا محدثا الثالث : أنه وصفه بكونه قرآنا والقرآن عبارة عن القراءة والقراءة مصدر والمصدر هو المفعول المطلق فكان فعلا ومفعولا والجواب : أنا نحمل كل هذه الوجوه على الحروف والأصوات وهي حادثة ومحدثة.
المسألة الثانية : قال الزجاج قوله : عَرَبِيًّا منصوب على الحال والمعنى ضربنا للناس في هذا القرآن في حال عربيته وبيانه ويجوز أن ينتصب على المدح.
المسألة الثالثة : أنه تعالى وصفه بصفات ثلاثة أولها : كونه قرآنا، والمراد كونه متلوا في المحاريب إلى قيام القيامة، كما قال : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ [الحجر : ٩]، وثانيها : كونه عربيا والمراد أنه أعجز الفصحاء والبلغاء عن معارضته كما قال : قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء : ٨٨] وثالثها : كونه غير ذي عوج والمراد براءته عن


الصفحة التالية
Icon