مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٤٥٢
اعلم أنه تعالى لما ذكر وعيد الكاذبين والمكذبين للصادقين ذكر عقيبه وعد الصادقين ووعد المصدقين، ليكون الوعد مقرونا بالوعيد، وفيه مسائل :
المسألة الأولى قوله : وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ تقديره : والذي جاء بالصدق والذي صدق به، وفيه قولان الأول : أن
المراد شخص واحد فالذي جاء بالصدق محمد، والذي صدق به هو أبو بكر، وهذا القول مروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام
وجماعة من المفسرين رضي اللّه عنهم والثاني : أن المراد منه كل من جاء بالصدق، فالذي جاء بالصدق الأنبياء، والذي صدق به الأتباع، واحتج القائلون بهذا القول بأن الذي جاء بالصدق جماعة وإلا لم يجز أن يقال : أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ.
المسألة الثانية : أن الرسالة لا تتم إلا بأركان أربعة : المرسل والمرسل والرسالة والمرسل إليه، والمقصود من الإرسال إقدام المرسل إليه على القبول والتصديق، فأول شخص أتى بالتصديق هو الذي يتم به الإرسال، وسمعت بعض القاصين من الذي
يروى عن النبي صلى اللّه عليه وسلّم أنه قال :«دعوا أبا بكر فإنه من تتمة النبوة».
واعلم أنا سواء قلنا المراد بالذي صدق به شخص معين، أو قلنا المراد منه كل من كان موصوفا بهذه الصفة، فإن أبا بكر داخل فيه.
أما على التقدير الأول : فدخول أبي بكر فيه ظاهر، وذلك لأن هذا يتناول أسبق الناس إلى التصديق، وأجمعوا على أن الأسبق الأفضل إما أبو بكر وإما علي، وحمل هذا اللفظ على أبي بكر أولى، لأن عليا عليه السلام كان وقت البعثة صغيرا، فكان كالولد الصغير الذي يكون في البيت، ومعلوم أن إقدامه على التصديق لا يفيد مزيد قوة وشوكة. أما أبو بكر فإنه كان رجلا كبيرا في السن كبيرا في المنصب، فإقدامه على التصديق يفيد مزيد قوة وشوكة في الإسلام، فكان حمل هذا اللفظ إلى أبي بكر أولى.
وأما على التقدير الثاني : فهو أن يكون المراد كل من كان موصوفا بهذه الصفة، وعلى هذا التقدير يكون أبو بكر داخلًا فيه.
المسألة الثالثة : قال صاحب «الكشاف» قرئ وصدق بالتخفيف أي صدق به الناس، ولم / يكذبهم يعني أداه إليهم كما نزل عليه من غير تحريف، وقيل صار صادقا به أي بسببه، لأن القرآن معجزة، والمعجزة تصديق من الحكيم الذي لا يفعل القبيح فيصير المدعي للرسالة صادقا بسبب تلك المعجزة وقرئ وصدق.
واعلم أنه تعالى أثبت للذي جاء بالصدق وصدق به أحكاما كثيرة.
فالحكم الأول : قوله : أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ وتقريره أن التوحيد والشرك ضدان، وكلما كان أحد الضدين أشرف وأكمل كان الضد الثاني أخس وأرذل، ولما كان التوحيد أشرف الأسماء كان الشرك أخس الأشياء، والآتي بأحد الضدين يكون تاركا للضد الثاني، فالآتي بالتوحيد الذي هو أفضل الأشياء يكون تاركا


الصفحة التالية
Icon