مفاتيح الغيب، ج ٢٦، ص : ٤٥٥
والأصل الثاني : أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر وهو المراد من قوله : قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ فثبت أنه لا بد من الإقرار بوجود الإله القادر الحكيم الرحيم، وثبت أن هذه الأصنام لا قدرة لها على الخير والشر، وإذا كان الأمر كذلك كانت عبادة اللّه كافية، وكان الاعتماد عليه كافيا وهو المراد من قوله : قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ فإذا ثبت هذا الأصل لم يلتفت العاقل / إلى تخويف المشركين فكان المقصود من هذه الآية هو التنبيه على الجواب عما ذكره اللّه تعالى قبل هذه الآية وهو قوله تعالى : وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ [الزمر : ٣٦] وقرئ : كاشِفاتُ ضُرِّهِ ومُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ بالتنوين على الأصل وبالإضافة للتخفيف، فإن قيل كيف قوله : كاشِفاتُ ومُمْسِكاتُ على التأنيث بعد قوله : وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ؟ قلنا المقصود التنبيه على كمال ضعفها فإن الأنوثة مظنة الضعف ولأنهم كانوا يصفونها بالتأنيث ويقولون اللات والعزى ومناة، ولما أورد اللّه عليهم هذه الحجة التي لا دفع لها قال بعده على وجه التهديد : قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ أي أنتم تعتقدون في أنفسكم أنكم في نهاية القوة والشدة فاجتهدوا في أنواع مكركم وكيدكم، فإني عامل أيضا في تقرير ديني فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ أن العذاب والخزي يصيبني أو يصيبكم والمقصود منه التخويف.
[سورة الزمر (٣٩) : الآيات ٤١ إلى ٤٤]
إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (٤١) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٤٢) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (٤٣) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٤٤)
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن النبي صلى اللّه عليه وسلّم كان يعظم عليه إصرارهم على الكفر كما قال : فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا [الكهف : ٦] وقال : لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء : ٣] وقال تعالى : فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ [فاطر : ٨] فلما أطنب اللّه تعالى في هذه الآية في فساد مذاهب المشركين تارة بالدلائل والبينات وتارة بضرب الأمثال وتارة بذكر الوعد والوعيد أردفه بكلام يزيل / ذلك الخوف العظيم عن قلب الرسول صلى اللّه عليه وسلّم فقال : إنا أنزلنا عليك الكتاب الكامل الشريف لنفع الناس ولاهتدائهم به وجعلنا إنزاله مقرونا بالحق وهو المعجز الذي يدل على أنه من عند اللّه فمن اهتدى فنفعه يعود إليه، ومن ضل فضمير ضلاله يعود إليه وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ والمعنى أنك لست مأمورا بأن تحملهم على الإيمان على سبيل القهر بل القبول وعدمه مفوض إليهم، وذلك لتسلية الرسول في إصرارهم على الكفر، ثم بين تعالى أن الهداية والضلال لا يحصلان إلا من اللّه تعالى، وذلك لأن الهداية تشبه الحياة واليقظة والضلال يشبه الموت والنوم،


الصفحة التالية
Icon