مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٤٨٦
حكاية عن الكفار أنهم قالوا لنوح عليه السلام يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا [هود : ٣٢] وأما الجدال في تقرير الباطل فهو مذموم وهو المراد بهذه الآية حيث قال : ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وقال : ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ [الزخرف : ٥٨] وقال : وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وقال صلى اللّه عليه وسلّم :«إن جدالا في القرآن كفر»
فقوله إن جدالا على لفظ التنكير يدل على التمييز بين جدال وجدال، واعلم أن لفظ الجدال في الشيء مشعر بالجدال الباطل ولفظ الجدال عن الشيء مشعر بالجدال لأجل تقريره والذب عنه،
قال صلى اللّه عليه وسلّم :«إن جدالا في القرآن كفر»
وقال :«لا تماروا في القرآن فإن المراء فيه كفر».
المسألة الثانية : الجدال في آيات اللّه هو أن يقال مرة إنه سحر ومرة إنه شعر ومرة إنه قول الكهنة ومرة أساطير الأولين ومرة إنما يعلمه بشر، وأشباه هذا مما كانوا يقولونه من الشبهات الباطلة فذكر تعالى أنه لا يفعل هذا إلا الذين كفروا وأعرضوا عن الحق.
ثم قال تعالى : فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أي لا ينبغي أن تغتر بأني أمهلهم وأتركهم سالمين في أبدانهم وأموالهم يتقلبون في البلاد أي يتصرفون للتجارات وطلب المعاش، فإني وإن أمهلتهم فإني سآخذهم وأنتقم منهم كما فعلت بأشكالهم من الأمم الماضية، وكانت قريش كذلك / يتقلبون في بلاد الشام واليمن ولهم الأموال الكثيرة يتجرون فيها ويربحون، ثم كشف عن هذا المعنى فقال : كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ فذكر من أولئك المكذبين قوم نوح والأحزاب من بعدهم أي الأمم المستمرة على الكفر كقوم عاد وثمود وغيرهم، كما قال في سورة ص [١٢، ١٣] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ وقوله وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ أي وعزمت كل أمة من هؤلاء الأحزاب أن يأخذوا رسولهم ليقتلوه ويعذبوه ويحبسوه وَجادَلُوا بِالْباطِلِ أي هؤلاء جادلوا رسلهم بالباطل أي بإيراد الشبهات لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ أي أن يزيلوا بسبب إيراد تلك الشبهات الحق والصدق فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي فأنزلت بهم من الهلاك ما هموا بإنزاله بالرسل، وأرادوا أن يأخذوهم فأخذتهم أنا، فكيف كان عقابي إياهم، أليس كان مهلكا مستأصلا مهيبا في الذكر والسماع، فأنا أفعل بقومك كما فعلت بهؤلاء إن أصروا على الكفر والجدال في آيات اللّه، ثم كشف عن هذا المعنى فقال : وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أي ومثل الذي حق على أولئك الأمم السالفة من العقاب حقت كلمتي أيضا على هؤلاء الذين كفروا من قومك فهم على شرف نزول العقاب بهم قال صاحب «الكشاف» : أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ في محل الرفع بدل من قوله كَلِمَةُ رَبِّكَ أي مثل
ذلك الوجوب وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار، ومعناه كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل، كذلك وجب إهلاكهم بعذاب النار في الآخرة، أو في محل النصب بحذف لام التعليل وإيصال الفعل، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن قضاء اللّه بالسعادة والشقاوة لازم لا يمكن تغييره، فقالوا إنه تعالى أخبر أنه حقت كلمة العذاب عليهم وذلك يدل على أنهم لا قدرة لهم على الإيمان، لأنهم لو تمكنوا منه لتمكنوا من إبطال هذه الكلمة الحقة، ولتمكنوا من إبطال علم اللّه وحكمته، ضرورة أن المتمكن من الشيء يجب كونه متمكنا من كل ما هو من لوازمه، ولأنهم لو آمنوا لوجب عليهم أن يؤمنوا بهذه