مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٤٨٨
وذلك لأن نسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأجساد إلى الأجساد، فلما كان العرش أشرف الموجودات الجسمانية كانت الأرواح المتعلقة بتدبير العرش يجب أن تكون أفضل من الأرواح المدبرة للأجساد، وأيضا يشبه أن يكون هناك أرواح حاملة لجسم العرش ثم يتولد عن تلك الأرواح القاهرة المستعلية لجسم العرش أرواح أخر من جنسها، وهي متعلقة بأطراف العرش وإليهم الإشارة بقوله وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ [الزمر : ٧٥] وبالجملة فقد ظهر بالبراهين اليقينية، وبالمكاشفات الصادقة أنه لا نسبة لعالم الأجساد، إلى عالم الأرواح فكل ما شاهدته بعين البصر في اختلاف مراتب عالم الأجساد، فيجب أن تشاهده بعين بصيرتك في اختلاف مراتب عالم الأرواح.
المسألة الثانية : دلت هذه الآية على أنه سبحانه منزه عن أن يكون في العرش، وذلك لأنه تعالى قال في هذه الآية الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وقال في آية أخرى وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ.
[الحاقة : ١٧] ولا شك أن حامل العرش يكون حاملا لكل من في العرش، فلو كان إله العالم في العرش لكان هؤلاء الملائكة حاملين لإله العالم فحينئذ يكونون حافظين لإله العالم والحافظ القادر أولى بالإلهية والمحمول المحفوظ أولى بالعبودية، فحينئذ ينقلب الإله عبدا والعبد إلها، وذلك فاسد، فدل هذا على أن إله العرش والأجسام متعال عن العرش والأجسام.
واعلم أنه تعالى حكى عن حملة العرش، وعن الحافين بالعرش ثلاثة أشياء :
النوع الأول : قوله يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ونظيره قوله حكاية عن الملائكة وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ [البقرة : ٣٠] وقوله تعالى : وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [الزمر : ٧٥] فالتسبيح عبارة عن تنزيه اللّه تعالى عما لا ينبغي، والتحميد الاعتراف بأنه هو المنعم على الإطلاق، فالتسبيح إشارة إلى الجلال والتحميد إشارة إلى الإكرام، فقوله يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ قريب من قوله تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ [الرحمن : ٧٨].
النوع الثاني : مما حكى اللّه عن هؤلاء الملائكة هو قوله تعالى : وَيُؤْمِنُونَ بِهِ فإن قيل فأي فائدة في قوله وَيُؤْمِنُونَ بِهِ فإن الاشتغال بالتسبيح والتحميد لا يمكن إلا وقد سبق الإيمان باللّه؟ قلنا الفائدة فيه ما ذكره صاحب «الكشاف»، وقد أحسن فيه جدا فقال إن المقصود منه التنبيه على أن اللّه تعالى لو كان حاضرا بالعرش لكان حملة العرش والحافون حول العرش يشاهدونه ويعاينونه، ولما كان إيمانهم بوجود اللّه موجبا للمدح والثناء لأن الإقرار بوجود شيء حاضر مشاهد معاين لا يوجب المدح والثناء، ألا ترى أن الإقرار بوجود الشمس وكونها مضيئة لا يوجب / المدح والثناء، فلما ذكر اللّه تعالى إيمانهم باللّه على سبيل الثناء والمدح والتعظيم، علم أنهم آمنوا به بدليل أنهم ما شاهدوه حاضرا جالسا هناك، ورحم اللّه صاحب «الكشاف» فلو لم يحصل في كتابه إلا هذه النكتة لكفاه فخرا وشرفا.
النوع الثالث : مما حكى اللّه عن هؤلاء الملائكة قوله تعالى : وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا اعلم أنه ثبت أن كمال السعادة مربوط بأمرين : التعظيم لأمر اللّه، والشفقة على خلق اللّه، ويجب أن يكون التعظيم لأمر اللّه مقدما على الشفقة على خلق اللّه فقوله يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ مشعر بالتعظيم لأمر اللّه