مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٤٩٢
وأما الممكن فوجوده من اللّه تعالى وبإيجاده، وذلك رحمة، فثبت أنه لا موجود غير اللّه إلا وقد وصل إليه نصيب ونصاب من رحمة اللّه، فلهذا قال : رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً وفي الآية دقيقة أخرى، وهي أن الملائكة قدموا ذكر الرحمة على ذكر العلم فقالوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً وذلك لأن مطلوبهم إيصال الرحمة وأن يتجاوز عما عليه منهم من أنواع الذنوب، فالمطلوب بالذات هو الرحمة، والمطلوب بالعرض أن يتجاوز عما علمه منهم، والمطلوب بالذات مقدم على المطلوب بالعرض، ألا ترى أنه لما كان إبقاء الصحة مطلوبا بالذات وإزالة المرض مطلوبا بالعرض لا جرم لما ذكروا حد الطب قدموا فيه حفظ الصحة على إزالة المرض، فقالوا الطب علم يتعرف منه أحوال بدن الإنسان من جهة ما يصلح ويزول عن الصحة لتحفظ الصحة حاصلة وتسترد زائلة، فكذا هاهنا المطلوب بالذات هو الرحمة، وأما التجاوز عما علمه منهم من أنواع الذنوب فهو مطلوب بالعرض، لأجل أن حصول الرحمة على سبيل الكمال لا يحصل إلا بالتجاوز عن الذنوب، فلهذا السبب وقع ذكر الرحمة سابقا على ذكر العلم.
المسألة الرابعة : دلت هذه الآية على أن المقصود بالقصة الأولى في الخلق والتكوين إنما هو الرحمة والفضل والجود والكرم، ودلت الدلائل اليقينية على أن كل ما دخل في الوجود من أنواع الخير والشر والسعادة والشقاوة فبقضاء اللّه وقدره، والجمع بين هذين الأصلين في غاية الصعوبة، فعند هذا قالت الحكماء : الخير مراد مرضي، والشر مراد مكروه، والخير مقضي به بالذات، والشر مقضي به بالعرض، وفيه غور عظيم.
المسألة الخامسة : قوله وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً يدل على كونه سبحانه عالما بجميع المعلومات التي لا نهاية لها من الكليات والجزئيات، وأيضا فلولا ذلك لم يكن في الدعاء والتضرع فائدة لأنه إذا جاز أن يخرج عن علمه بعض الأشياء، فعلى هذا التقدير لا يعرف هذا الداعي أن اللّه سبحانه يعلمه ويعلم دعاءه وعلى هذا التقدير لا يبقى في الدعاء فائدة ألبتة.
واعلم أنه تعالى لما حكى عنهم كيفية ثنائهم على اللّه تعالى حكى عنهم كيفية دعائهم، وهو أنهم قالوا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ واعلم أن الملائكة طلبوا بالدعاء / من اللّه تعالى أشياء كثيرة للمؤمنين، فالمطلوب الأول الغفران وقد سبق تفسيره في قوله فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ فإن قيل لا معنى للغفران إلا إسقاط العذاب، وعلى هذا التقدير فلا فرق بين قوله : فاغفر لهم، وبين قوله وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ قلنا دلالة لفظ المغفرة على إسقاط عذاب الجحيم دلالة حاصلة على الرمز والإشارة، فلما ذكروا هذا الدعاء على سبيل الرمز والإشارة أردفوه بذكره على سبيل التصريح لأجل التأكيد والمبالغة، واعلم أنهم لما طلبوا من اللّه إزالة العذاب عنهم أردفوه بأن طلبوا من اللّه إيصال الثواب إليهم فقالوا رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ فإن قيل أنتم زعمتم أن هذه الشفاعة إنما حصلت للمذنبين وهذه الآية تبطل ذلك لأنه تعالى ما وعد المذنبين بأن يدخلهم في جنات عدن، قلنا لا نسلم أنه ما وعدهم بذلك، لأنا بينا أن الدلائل الكثيرة في القرآن دلت على أنه تعالى لا يخلد أهل لا إله إلا اللّه محمد رسول اللّه في النار، وإذا أخرجهم من النار وجب أن يدخلهم الجنة فكان هذا وعدا من اللّه تعالى لهم بأن يدخلهم في جنّات عدن، إما من غير دخول النار وإما بعد أن يدخلهم النار. قال تعالى : وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ يعني وأدخل معهم في


الصفحة التالية
Icon