مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٤٩٨
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ
[الأنعام : ٥٩] وأما في القدرة : فهو أعلى القادرين وأرفعهم، لأنه في وجوده وجميع كمالات وجوده غني عن كل ما سواه، وكل ما سواه فإنه محتاج في وجوده وفي جميع كمالات وجوده إليه، وأما في الوحدانية : فهو الواحد الذي يمتنع أن يحصل له ضد وند وشريك ونظير، وأقول : الحق سبحانه له صفتان أحدهما : استغناؤه في وجوده وفي جميع صفات وجوده عن كل ما سواه الثاني : افتقار كل ما سواه إليه في وجوده وفي صفات وجوده، فالرفيع إن فسرناه بالمرتفع، كان معناه أنه أرفع الموجودات وأعلاها في جميع صفات الجلال والإكرام، وإن فسرناه بالرافع، كان معناه أن كل درجة وفضيلة ورحمة ومنقبة حصلت لشيء سواه، فإنما حصلت بإيجاده وتكوينه وفضله ورحمته.
الصفة الثانية : قوله ذُو الْعَرْشِ ومعناه أنه مالك العرش ومدبره وخالقه، واحتج بعض الأغمار من المشابهة بقوله رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ وحملوه على أن المراد بالدرجات، السموات، وبقوله ذُو الْعَرْشِ أنه موجود في العرش فوق سبع سموات، وقد أعظموا الفرية / على اللّه تعالى، فإنا بينا بالدلائل القاهرة العقلية أن كونه تعالى جسما وفي جهة محال، وأيضا فظاهر اللفظ لا يدل على ما قالوه، لأن قوله ذُو الْعَرْشِ لا يفيد إلا إضافته إلى العرش ويكفي فيه إضافته إليه بكونه مالكا له ومخرجا له من العدم إلى الوجود، فأي ضرورة تدعونا إلى الذهاب إلى القول الباطل والمذهب الفاسد، والفائدة في تخصيص العرش بالذكر هو أنه أعظم الأجسام، والمقصود بيان كمال إلهيته ونفاذ قدرته، فكل ما كان محل التصرف والتدبير أعظم، كانت دلالته على كمال القدرة أقوى.
الصفة الثالثة : قوله يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وفيه مباحث :
البحث الأول : اختلفوا في المراد بهذا الروح، والصحيح أن المراد هو الوحي، وقد أطنبنا في بيان أنه لم سمي الوحي بالروح في أول سورة النحل في تفسير قوله يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ [النحل : ٢] وقال أيضا : أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [الأنعام : ١٢٢] وحاصل الكلام فيه : أن حياة الأرواح بالمعارف الإلهية والجلايا القدسية، فإذا كان الوحي سببا لحصول هذه الأرواح سمي بالروح، فإن الروح سبب لحصول الحياة، والوحي سبب لحصول هذه الحياة الروحانية.
واعلم أن هذه الآية مشتملة على أسرار عجيبة من علوم المكاشفات، وذلك لأن كمال كبرياء اللّه تعالى لا تصل إليه العقول والأفهام، فالطريق الكامل في تعريفه بقدر الطاقة البشرية أن يذكر ذلك الكلام على الوجه الكلي العقلي، ثم يذكر عقيبه شيء من المحسوسات المؤكدة لذلك المعنى العقلي ليصير الحصر بهذا الطريق معاضدا للعقل، فههنا أيضا كذلك، فقوله رَفِيعُ الدَّرَجاتِ إما أن يكون بمعنى كونه رافعا للدرجات، وهو إشارة إلى تأثير قدرة اللّه تعالى في إيجاد الممكنات على اختلاف درجاتها وتباين منازلها وصفاتها، أو إلى كونه تعالى مرتفعا في صفات الجلال ونعوت العزة عن كل الموجودات، فهذا الكلام عقلي برهاني، ثم إنه سبحانه بين هذا الكلام الكلي بمزيد تقرير، وذلك لأن ما سوى اللّه تعالى إما جسمانيات وإما روحانيات، فبين في هذه الآية أن كلا القسمين مسخر تحت تسخير الحق سبحانه وتعالى، أما الجسمانيات فأعظمها العرش، فقوله ذُو الْعَرْشِ يدل على استيلائه على كلية عالم الأجسام، ولما كان العرش من جنس المحسوسات كان هذا المحسوس مؤكدا لذلك المعقول، أعني قوله رَفِيعُ الدَّرَجاتِ وأما الروحانيات


الصفحة التالية
Icon