مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٠٠
الرابع : أن هذه النفوس الناطقة البشرية كأنها في الدنيا انغمست في ظلمات أعمال الأبدان فإذا جاء يوم القيامة أعرضت عن الاشتغال بتدبير الجسمانيات وتوجهت بالكلية إلى عالم القيامة ومجمع الروحانيات، فكأنها برزت بعد أن كانت كامنة في الجسمانيات مستترة بها.
الصفة الثالثة : قوله لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ والمراد يوم لا يخفى على اللّه منهم شيء، والمقصود منه الوعيد فإنه تعالى بين أنهم إذا برزوا من قبورهم واجتمعوا وتلاقوا فإن اللّه تعالى يعلم ما فعله كل واحد منهم فيجازي كلا بحسبه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، فهم وإن لم يعلموا تفصيل ما فعلوه، فاللّه تعالى عالم بذلك ونظيره قوله يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ [الحاقة : ١٨] وقال : يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ [الطارق : ٩] وقال : إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ [العاديات : ٩، ١٠] وقال : يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها [الزلزلة : ٤] فإن قيل اللّه تعالى لا يخفى عليه منهم شيء في جميع الأيام، فما معنى تقييد هذا المعنى بذلك اليوم؟ قلنا إنهم كانوا يتوهمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان والحجب أن اللّه لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم، فهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما يتوهمونه في الدنيا، قال تعالى : وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ [فصلت : ٢٢] وقال : يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
[النساء : ١٠٨] وهو معنى قوله : وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [إبراهيم : ٤٨].
الصفة الرابعة : قوله تعالى : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ والتقدير يوم ينادي فيه لمن الملك اليوم؟ وهذا النداء في أي الأوقات يحصل فيه قولان :
الأول : قال المفسرون إذا هلك كل من السموات ومن في الأرض فيقول الرب تعالى : لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ يعني يوم القيامة فلا يجيبه أحد فهو تعالى يجيب نفسه فيقول لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ قال أهل الأصول هذا القول ضعيف وبيانه من وجوه الأول : أنه تعالى بيّن أن هذا النداء إنما يحصل يوم التلاق ويوم البروز ويوم تجزى كل نفس بما كسبت، والناس في ذلك الوقت أحياء، فبطل قولهم إن اللّه تعالى إنما ينادي بهذا النداء حين هلك كل من في السموات والأرض والثاني : أن الكلام لا بد فيه من فائدة لأن الكلام إما أن يذكر حال حضور الغير، أو حال ما لا يحضر الغير، والأول : باطل هاهنا لأن القوم قالوا إنه تعالى إنما يذكر هذا الكلام عند فناء الكل، والثاني : أيضا باطل لأن الرجل إنما يحسن تكلمه حال كونه وحده إما لأنه يحفظ به شيئا كالذي يكرر على الدرس وذلك على اللّه محال، أو لأجل أنه يحصل سرور بما يقوله وذلك أيضا على اللّه محال، أو لأجل أن يعبد اللّه بذلك الذكر وذلك أيضا على اللّه محال، فثبت أن قول من يقول إن اللّه تعالى يذكر هذا النداء جال هلاك جميع المخلوقات باطل لا أصل له.
والقول الثاني : أن في يوم التلاق إذا حضر الأولون والآخرون وبرزوا للّه نادى مناد لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فيقول كل الحاضرين في محفل القيامة لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ فالمؤمنون يقولونه تلذذا بهذا الكلام، حيث نالوا بهذا الذكر المنزلة الرفيعة، والكفار يقولونه على الصغار والذلة على وجه التحسر والندامة على أن فاتهم هذا الذكر في الدنيا، وقال القائلون بهذا القول إن صح القول الأول عن ابن عباس وغيره لم يمتنع أن يكون المراد أن هذا النداء يذكر بعد فناء البشر إلا أنه حضر هناك ملائكة يسمعون ذلك النداء، وأقول أيضا على هذا القول لا يبعد أن يكون السائل / والمجيب هو اللّه تعالى، ولا يبعد أيضا أن يكون السائل جمعا من الملائكة والمجيب


الصفحة التالية
Icon