مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٢٠
قوله تعالى : وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا [المائدة : ٢] أي كسب ذلك الدعاء إليه بطلان دعوته بمعنى أنه ما حصل من ذلك إلا ظهور بطلان دعوته، ويجوز أن يقال إن لا جَرَمَ نظيره لا بد فعل / من الجرم وهو القطع كما أن بد فعل من التبديد وهو التفريق، وكما أن معنى لا بد أنك تفعل كذا أنه لا بد لك من فعله، فكذلك لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ [النحل : ٦٢] أي لا قطع لذلك بمعنى أنهم أبدا يستحقون النار لا انقطاع لاستحقاقهم، ولا قطع لبطلان دعوة الأصنام، أي لا تزال باطلة لا ينقطع ذلك فينقلب حقا، وروي عن بعض العرب لا جرم أنه يفعل بضم الجيم وسكون الراء بزنة بد «١» وفعل إخوان كرشد ورشد وكعدم وعدم هذا كله ألفاظ صاحب «الكشاف».
ثم قال : أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ والمراد أن الأوثان التي تدعونني إلى عبادتها ليس لها دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وفي تفسير هذه الدعوة احتمالان.
الأول : أن المعنى ما تدعونني إلى عبادته ليس له دعوة إلى نفسه لأنها جمادات والجمادات لا تدعو أحدا إلى عبادة نفسها وقوله فِي الْآخِرَةِ يعني أنه تعالى إذا قلبها حيوانا في الآخرة فإنها تتبرأ من هؤلاء العابدين.
والاحتمال الثاني : أن يكون قوله لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ معناه ليس له استجابة دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، فسميت استجابة الدعوة بالدعوة إطلاقا لاسم أحد المتضايفين على الآخر، كقوله وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى : ٤٠] ثم قال : وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ فبين أن هذه الأصنام لا فائدة فيها ألبتة، ومع ذلك فإن مردنا إلى اللّه العالم بكل المعلومات القادر على كل الممكنات الغني عن كل الحاجات الذي لا يبدل القول لديه وما هو بظلام للعبيد، فأي عاقل يجوز له عقله أن يشتغل بعبادة تلك الأشياء الباطلة وأن يعرض عن عبادة هذا الإله الذي لا بد وأن يكون مرده إليه؟ وقوله وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ قال قتادة يعني المشركين وقال مجاهد السفاكين للدماء والصحيح أنهم أسرفوا في معصية اللّه بالكمية والكيفية، أما الكمية فالدوام وأما الكيفية فبالعود والإصرار، ولما بالغ مؤمن آل فرعون في هذه البيانات ختم كلامه بخاتمة لطيفة فقال : فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وهذا كلام مبهم يوجب التخويف ويحتمل أن يكون المراد أن هذا الذكر يحصل في الدنيا وهو وقت الموت، وأن يكون في القيامة وقت مشاهدة الأهوال وبالجملة فهو تحذير شديد، ثم قال : وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ وهذا كلام من هدد بأمر يخافه فكأنهم خوفوه بالقتل وهو أيضا خوفهم بقوله فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ ثم عول في دفع تخويفهم وكيدهم ومكرهم على فضل اللّه تعالى فقال :
وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ وهو إنما تعلم هذه الطريقة من موسى عليه السلام، فإن فرعون لما خوفه بالقتل رجع موسى في دفع ذلك الشر إلى اللّه حيث قال : إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ [غافر : ٢٧] فتح نافع وأبو عمرو الياء من أَمْرِي والباقون بالإسكان.
ثم قال : إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي عالم بأحوالهم وبمقادير حاجاتهم، وتمسك أصحابنا بقوله تعالى :
وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ على أن الكل من اللّه، وقالوا إن المعتزلة الذين قالوا إن الخير / والشر يحصل بقدرتهم قد فوضوا أمر أنفسهم إليهم وما فوضوها إلى اللّه، والمعتزلة تمسكوا بهذه الآية فقالوا إن قوله أُفَوِّضُ