مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٢٢
العذاب إلا في هذين الوقتين، فثبت أن هذا لا يمكن حمله على عذاب القبر الثاني : أن الغدوة والعشية إنما يحصلان في الدنيا، أما في القبر فلا وجود لهما، فثبت بهذين الوجهين أنه لا يمكن حمل هذه الآية على عذاب القبر والجواب : عن السؤال الأول أن في الدنيا عرض عليهم كلمات تذكرهم أمر النار، لا أنه يعرض عليهم نفس النار، فعلى قولهم يصير معنى الآية الكلمات المذكرة لأمر النار كانت تعرض عليهم، وذلك يفضي إلى ترك ظاهر اللفظ والعدول إلى المجاز، أما قوله الآية تدل على حصول هذا العذاب في هذين الوقتين وذلك لا يجوز، قلنا لم لا يجوز أن يكتفي في القبر بإيصال العذاب إليه في هذين الوقتين، ثم عند قيام القيامة يلقى في النار فيدوم عذابه بعد ذلك، وأيضا لا يمتنع أن يكون ذكر الغدوة والعشية كناية عن الدوام كقوله وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا [مريم : ٦٢] أما قوله إنه ليس في القبر والقيامة غدوة وعشية، قلنا لم لا يجوز أن يقال إن عند حصول هذين الوقتين لأهل الدنيا يعرض عليهم العذاب؟ واللّه أعلم.
المسألة الثانية : قرأ نافع وحمزة والكسائي وحفص عن عاصم أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أي يقال لخزنة جهنم : أدخلوهم في أشد العذاب، والباقون أدخلوا على معنى أنه يقال لهؤلاء الكفار : أدخلوا أشد العذاب، والقراءة الأولى اختيار أبي عبيدة، واحتج عليها بقوله تعالى : يُعْرَضُونَ فهذا يفعل بهم فكذلك أَدْخِلُوا وأما وجه القراءة الثانية فقوله فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ، وهاهنا آخر الكلام في قصة مؤمن آل فرعون.
واعلم أن الكلام في تلك القصة لما انجر إلى شرح أحوال النار، لا جرم ذكر اللّه عقيبها قصة المناظرات التي تجري بين الرؤساء والأتباع من أهل النار فقال : وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ والمعنى اذكر يا محمد لقومك إذ يتحاجون أي يحاجج بعضهم بعضا، ثم شرح خصومتهم وذلك أن الضعفاء يقولون للرؤساء إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً في الدنيا، قال صاحب «الكشاف» تبعا كخدم في جمع خادم أو ذوي تبع أي أتباع أو وصفا بالمصدر فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ أي فهل تقدرون على أن تدفعوا أيها الرؤساء عنا نصيبا من العذاب، واعلم أن أولئك الأتباع يعلمون أن أولئك الرؤساء لا قدرة لهم على ذلك التخفيف، وإنما مقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تخجيل أولئك الرؤساء وإيلام قلوبهم، لأنهم هم الذين سعوا في إيقاع هؤلاء الأتباع في أنواع الضلالات فعند هذا يقول الرؤساء إِنَّا كُلٌّ فِيها يعني أن كلنا واقعون في هذا العذاب، فلو قدرت على إزالة العذاب عنك لدفعته عن نفسي، ثم يقولون إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ يعني يوصل إلى كل أحد مقدار حقه من النعيم أو من العذاب، ثم عند هذا يحصل اليأس للأتباع من المتبوعين فيرجعون إلى خزنة جهنم ويقولون لهم ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ فإن قيل لم لم يقل : وقال الذين في النار لخزنتها بل قال :
وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ؟ قلنا فيه وجهان الأول : أن يكون المقصود من ذكر جهنم التهويل والتفظيع والثاني : أن يكون جهنم اسما لموضع هو أبعد النار قعرا، من قولهم بئر جهنام أي بعيدة القعر، وفيها أعظم أقسام الكفار عقوبة وخزنة ذلك الموضع تكون أعظم خزنة جهنم عند اللّه درجة، فإذا عرف الكفار أن الأمر كذلك استغاثوا بهم، فأولئك الملائكة يقولون لهم أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ والمقصود أن قبل إرسال الرسل كان للقوم أن يقولوا إنه ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [المائدة : ١٩] أما بعد مجيء الرسل فلم يبق عذر ولا علة كما قال تعالى : وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء : ١٥] وهذه الآية تدل على أن الواجب لا يتحقق إلا بعد مجيء الشرع، ثم إن أولئك الملائكة يقولون للكفار ادعوا أنتم فإنا لا نجترئ على


الصفحة التالية
Icon