مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٢٦
اعلم أنا بينا أن الكلام في أول هذه السورة إنما ابتدئ ردا على الذين يجادلون في آيات اللّه، واتصل البعض بالبعض وامتد على الترتيب الذي لخصناه، والنسق الذي كشفنا عنه إلى هذا / الموضع، ثم إنه تعالى نبّه في هذه الآية على الداعية التي تحمل أولئك الكفار على تلك المجادلة، فقال : إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ إنما يحملهم على هذا الجدال الباطل كبر في صدرهم فذلك الكبر هو الذي يحملهم على هذا الجدال الباطل، وذلك الكبر هو أنهم لو سلموا نبوتك لزمهم أن يكونوا تحت يدك وأمرك ونهيك، لأن النبوّة تحتها كل ملك ورئاسة وفي صدورهم كبر لا يرضون أن يكونوا في خدمتك، فهذا هو الذي يحملهم على هذه المجادلات الباطلة والمخاصمات الفاسدة.
ثم قال تعالى : ما هُمْ بِبالِغِيهِ يعني أنهم يريدون أن لا يكونوا تحت يدك ولا يصلون إلى هذا المراد، بل لا بدّ وأن يصيروا تحت أمرك ونهيك، ثم قال : فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ أي فالتجئ إليه من كيد من يجادلك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ بما يقولون، أو تقول الْبَصِيرُ بما تعمل ويعملون، فهو يجعلك نافذ الحكم عليهم ويصونك عن مكرهم وكيدهم.
واعلم أنه تعالى لما وصف جدالهم في آيات اللّه بأنه بغير سلطان ولا حجة ذكر لهذا مثالا، فقال لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ والقادر على الأكبر قادر على الأصغر لا محالة، وتقرير هذا الكلام أن الاستدلال بالشيء على غيره على ثلاثة أقسام أحدها : أن يقال لما قدر على الأضعف وجب أن يقدر على الأقوى وهذا فاسد وثانيها : أن يقال لما قدر على الشيء قدر على مثله، فهذا الاستدلال حق لما ثبت في العقول أن حكم الشيء حكم مثله وثالثها : أن يقال لما قدر على الأقوى الأكمل فبأن يقدر على الأقل الأرذل كان أولى، وهذا الاستدلال في غاية الصحة والقوة ولا يرتاب فيه عاقل ألبتة، ثم إن هؤلاء القوم يسلمون أن خالق السموات والأرض هو اللّه سبحانه وتعالى، ويعلمون بالضرورة أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس وكان من حقهم أن يقروا بأن القادر على خلق السموات والأرض يكون قادرا على إعادة الإنسان الذي خلقه أولا، فهذا برهان جلي في إفادة هذا المطلوب، ثم إن هذا البرهان على قوته صار بحيث لا يعرفه أكثر الناس، والمراد منهم الذين ينكرون الحشر والنشر، فظهر بهذا المثال أن هؤلاء الكفار يجادلون في آيات اللّه بغير سلطان ولا حجة، بل بمجرد الحسد والجهل والكبر والتعصب، ولما بيّن اللّه تعالى أن الجدال المقرون بالكبر والحسد والجهل كيف يكون، وأن الجدال المقرون بالحجة والبرهان كيف يكون، نبّه تعالى على الفرق بين البابين بذكر المثال فقال : وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يعني وما يستوي المستدل والجاهل المقلد، ثم قال : وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ فالمراد بالأول التفاوت بين العالم والجاهل، والمراد بالثاني التفاوت بين الآتي بالأعمال الصالحة وبين الآتي بالأعمال الفاسدة الباطلة، ثم قال : قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ يعني أنهم وإن مفاتيح
الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٢٧
كانوا يعلمون أن العلم خير من الجهل، وأن العمل الصالح خير من العمل الفاسد، إلا أنه قليلا ما تتذكرون في النوع المعين من الاعتقاد أنه علم أو جهل، والنوع المعين من العمل أنه عمل / صالح أو فاسد، فإن الحسد يعمي قلوبهم، فيعتقدون في الجهل والتقليد أنه محض المعرفة، وفي الحسد والحقد والكبر أنه محض الطاعة، فهذا هو المراد من قوله قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ قرأ عاصم وحمزة والكسائي تَتَذَكَّرُونَ بالتاء على الخطاب، أي قل لهم قليلا ما تتذكرون، والباقون بالياء على الغيبة.
ولما قرر الدليل الدال على إمكان وجود يوم القيامة، أردفه بأن أخبر عن وقوعها ودخولها في الوجود فقال : إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث والقيامة.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٦٠ إلى ٦٣]
وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٦٣)
اعلم أنه تعالى لما بيّن أن القول بالقيامة حق وصدق، وكان من المعلوم بالضرورة أن الإنسان لا ينتفع في يوم القيامة إلا بطاعة اللّه تعالى، لا جرم كان الاشتغال بالطاعة من أهم المهمات، ولما كان أشرف أنواع الطاعات الدعاء والتضرع، لا جرم أمر اللّه تعالى به في هذه الآية فقال : وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ واختلف الناس في المراد بقوله ادْعُونِي فقيل إنه الأمر بالدعاء، وقيل إنه الأمر بالعبادة، بدليل أنه قال بعده إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي ولولا أن الأمر بالدعاء أمر بمطلق العبادة لما بقي لقوله إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي معنى، وأيضا الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن كقوله إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً [النساء : ١١٧] وأجيب عنه بأن الدعاء هو اعتراف بالعبودية والذلة والمسكنة، فكأنه قيل إن تارك الدعاء إنما تركه لأجل أن يستكبر عن إظهار العبودية وأجيب عن قوله إن الدعاء بمعنى العبادة كثير في القرآن، بأن ترك الظاهر لا يصار / إليه إلا بدليل منفصل، فإن قيل كيف قال : ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ وقد يدعى كثيرا فلا يستجاب أجاب الكعبي عنه بأن قال : الدعاء إنما يصح على شرط، ومن دعا كذلك استجيب له، وذلك الشرط هو أن يكون المطلوب بالدعاء مصلحة وحكمة، ثم سأل نفسه فقال : فما هو أصلح يفعله بلا دعاء، فما الفائدة في الدعاء! وأجاب : عنه من وجهين الأول : أن فيه الفزع والانقطاع إلى اللّه والثاني : أن هذا أيضا وارد على الكل، لأنه إن علم أنه يفعله فلا بدّ وأن يفعله، فلا فائدة في الدعاء، وإن علم أنه لا يفعله فإنه ألبتة لا يفعله، فلا فائدة في الدعاء، وكل ما يقولونه هاهنا فهو جوابنا، هذا تمام ما ذكره، وعندي فيه وجه آخر وهو أنه قال :
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ فكل من دعا اللّه وفي قلبه ذرة من الاعتماد على ماله وجاهه وأقاربه وأصدقائه وجده واجتهاده، فهو في الحقيقة ما دعا اللّه إلا باللسان، أما بالقلب فإنه معول في تحصيل ذلك المطلوب على غير