مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٣٤
اعلم أنه تعالى لما أطنب في تقرير الوعيد عاد إلى ذكر ما يدل على وجود الإله الحكيم الرحيم، وإلى ذكر ما يصلح أن يعد إنعاما على العباد، قال الزجاج الأنعام الإبل خاصة، وقال القاضي هي الأزواج الثمانية، وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : أنه لم أدخل لام الغرض على قوله لِتَرْكَبُوا وعلى قوله لِتَبْلُغُوا ولم يدخل على البواقي فما السبب فيه؟ الجواب : قال صاحب «الكشاف» الركوب في الحج والغزو إما أن يكون واجبا أو مندوبا، فهذان القسمان أغراض دينية فلا جرم أدخل عليهما حرف التعليل، وأما الأكل وإصابة المنافع فمن جنس المباحات، فلا جرم ما أدخل عليها حرف التعليل، نظيره قوله تعالى : وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النحل : ٨] فأدخل التعليل على الركوب ولم يدخله على الزينة.
السؤال الثاني : قوله تعالى : وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ معناه تحملون في البر والبحر إذا عرفت هذا فنقول : لم لم يقل وفي الفلك كما قال قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ [هود : ٤٠] والجواب : أن كلمة على للاستعلاء فالشيء الذي يوضع في الفلك كما يصح أن يقال وضع فيه يصح أن يقال وضع عليه، ولما صح الوجهان كانت لفظة على أولى حتى يتم المراد في قوله وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ولما ذكر اللّه هذه الدلائل الكثيرة قال : يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
يعني أن هذه الآيات التي عددناها كلها ظاهرة باهرة، فقوله أَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ
تنبيه على أنه ليس في شيء من الدلائل التي تقدم ذكرها ما يمكن إنكاره، قال صاحب «الكشاف» قوله أَيَّ آياتِ اللَّهِ
جاء على اللغة المستفيضة، وقولك : فأية آيات اللّه قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب، وهي في أي أغرب لإبهامه واللّه أعلم.
[سورة غافر (٤٠) : الآيات ٨٢ إلى ٨٥]
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥)
اعلم أنه تعالى راعى ترتيبا لطيفا في آخر هذه السورة، وذلك أنه ذكر فصلا في دلائل الإلهية وكمال القدرة والرحمة والحكمة، ثم أردفه بفصل في التهديد والوعيد وهذا الفصل الذي وقع عليه ختم هذه السورة هو الفصل المشتمل على الوعيد، والمقصود أن هؤلاء الكفار الذين يجادلون في آيات اللّه وحصل الكبر العظيم في صدورهم بهذا، والسبب في ذلك كله طلب الرياسة والتقدم على الغير في المال والجاه، فمن ترك الانقياد للحق


الصفحة التالية
Icon