مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٤٠
صلبة ومنها رخوة، فيحصل من هذا التقسيم أقسام أربعة الصلبة المتقاربة، والرخوة المتقاربة، والصلبة المتباعدة، والرخوة المتباعدة، فإذا توالى في الكلمة حرفان صلبان متقاربان صعب اللفظ بها، لأن بسبب تقارب المخرج يصير التلفظ بها جاريا مجرى ما إذا كان الإنسان مقيدا ثم يمشي، وبسبب صلابة تلك الحروف تتوارد الأعمال الشاقة القوية على الموضع الواحد من المخرج، وتوالي الأعمال الشاقة يوجب الضعف والإعياء، ومثل هذا التركيب في اللغة العربية قليل وثانيها : أن جنس بعض الحروف ألذ وأطيب في السمع، وكل كلمة يحصل فيها حرف من هذا الجنس كان سماعها أطيب وثالثها : الوزن فنقول : الكلمة إما أن تكون ثنائية أو ثلاثية أو رباعية، وأعدلها هو الثلاثي لأن الصوت إنما يتولد بسبب الحركة، والحركة لا بد لها من مبدأ ووسط ومنتهى، فهذه ثلاث مراتب، فالكلمة لا بد وأن يحصل فيها هذه المراتب الثلاثة حتى تكون تامة، أما الثنائية فهي ناقصة وأما الرباعية فهي زائدة، والغائب في كلام العرب الثلاثيات، فثبت بما ذكرنا ضبط فضائل اللغات، والاستقراء يدل على أن لغة العرب موصوفة بها، وأما سائر اللغات فليست كذلك، واللّه أعلم.
المسألة السادسة : قوله لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني إنما جعلناه عَرَبِيًّا لأجل أن يعلموا المراد منه، والقائلون بأن أفعال اللّه معللة بالمصالح والحكم، تمسكوا بهذه الآية وقالوا إنها تدل على أنه إنما جعله عَرَبِيًّا لهذه الحكمة، فهذا يدل على أن تعليل أفعال اللّه تعالى وأحكامه جائز.
المسألة السابعة : قال قوم القرآن كله غير معلوم بل فيه ما يعلم، وفيه ما لا يعلم، وقال المتكلمون لا يجوز أن يحصل فيه شيء غير معلوم، والدليل عليه قوله تعالى : قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يعني إنما جعلناه عربيا ليصير معلوما، والقول بأنه غير معلوم يقدح فيه.
المسألة الثامنة : قوله تعالى : فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ يدل على أن الهادي من هداه اللّه وأن الضال من أضله اللّه وتقريره أن الصفات التسعة المذكورة للقرآن توجب قوة الاهتمام بمعرفته وبالوقوف على معانيه، لأنا بينا أن كونه نازلا من عند الإله الرحمن الرحيم يدل على اشتماله على أفضل المنافع وأجل المطالب، وكونه قُرْآناً عَرَبِيًّا مفصلا يدل على أنه في غاية الكشف والبيان، وكونه بَشِيراً وَنَذِيراً يدل على أن الاحتياج إلى فهم ما فيه من أهم المهمات، لأن سعي الإنسان في معرفة ما يوصله إلى الثواب أو إلى العقاب من أهم المهمات، وقد حصلت هذه الموجبات الثلاثة في تأكيد الرغبة في فهم القرآن وفي شدة الميل إلى الإحاطة به، ثم مع ذلك فقد أعرضوا عنه ولم يلتفتوا إليه ونبذوه وراء ظهورهم، وذلك يدل على أنه لا مهدي إلا من هداه اللّه، ولا ضال إلا من أضله اللّه.
واعلم أنه تعالى لما وصف القرآن بأنهم أعرضوا عنه ولا يسمعونه، بيّن أنهم صرحوا بهذه النفرة والمباعدة وذكروا ثلاثة أشياء أحدها : أنهم قالوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وأكنة جمع كنان كأغطية جمع غطاء، والكنان هو الذي يجعل فيه السهام وثانيها : قولهم وَفِي آذانِنا وَقْرٌ أي صمم وثقل يمنع من استماع قولك وثالثها : قولهم وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ والحجاب هو الذي يمنع من الرؤية والفائدة في كلمة (من) في قوله وَمِنْ بَيْنِنا أنه لو قيل : وبيننا وبينك حجاب، لكان المعنى أن حجابا حصل وسط الجهتين، وأما بزيادة لفظ (من) كأن المعنى أن الحجاب ابتدأ منا وابتدأ منك، فالمسافة الحاصلة بيننا وبينك مستوعبة