مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٤٧
الأرض كرة، فهي في أول حدوثها إن قلنا إنها كانت كرة والآن بقيت كرة أيضا فهي منذ خلقت كانت مدحوة، وإن قلنا إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال إنها كانت مدحوة قبل ذلك ثم أزيل عنها هذه الصفة، وذلك باطل الثالث : أن الأرض جسم في غاية العظم، والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحوا، فيكون القول بأنها ما كانت مدحوة، ثم صارت مدحوة قول باطل، والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت في موضع الصخرة ببيت المقدس، فهو كلام مشكل لأنه إن كانت المراد أنها على عظمها خلقت في ذلك الموضع، فهذا قول بتداخل الأجسام الكثيفة وهو محال، وإن كان المراد منه أنه خلق أولا أجزاء صغيرة في ذلك الموضع ثم خلق بقية أجزائها، وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولا، فهذا يكون اعترافا بأن تخليق الأرض وقع متأخرا عن تخليق السماء الرابع : أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين آخرين وتخليق السموات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام، فإذا حصل دحو الأرض من بعد ذلك فقد حصل هذا الدحو في زمان آخر بعد الأيام الستة، فحينئذ يقع تخليق السموات والأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل الخامس : أنه لا نزاع أن قوله تعالى بعد هذه الآية ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ (وَ هِيَ دُخانٌ) فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً كناية عن إيجاد السماء والأرض، فلو تقدم إيجاد السماء على إيجاد الأرض لكان قوله ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً يقتضي إيجاد الموجود وأنه محال باطل.
فهذا تمام البحث عن هذا الجواب المشهور، ونقل الواحدي في «البسيط» عن مقاتل أنه قال : خلق اللّه السموات قبل الأرض وتأويل قوله ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دخان، وقال لها قبل أن يخلق الأرض فأضمر فيه كان كما قال تعالى : قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يوسف : ٧٧] معناه إن يكن سرق، وقال تعالى : وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا [الأعراف : ٤] والمعنى فكان قد جاءها، هذا ما نقله الواحدي وهو عندي ضعيف، لأن تقدير الكلام ثم كان قد استوى إلى السماء، وهذا جمع بين الضدين لأن كلمة ثُمَّ تقتضي التأخير، وكلمة كان / تقتضي التقديم والجمع بينهما يفيد التناقض، وذلك دليل على أنه لا يمكن إجراؤه على ظاهره «١» وقد بينا أن قوله ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً إنما حصل قبل وجودهما، وإذا كان الأمر كذلك امتنع حمل قوله ائْتِيا على الأمر والتكليف، فوجب حمله على ما ذكرناه، بقي على لفظ الآية سؤالات.
السؤال الأول : ما الفائدة في قوله تعالى : فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً؟ الجواب : المقصود منه إظهار كمال القدرة والتقدير : ائتيا شئتما ذلك أو أبيتما، كما يقول الجبار لمن تحت يده لتفعلن هذا شئت أو لم تشأ، ولتفعلنه طوعا أو كرها، وانتصابهما على الحال بمعنى طائعين أو مكرهين قالَتا أَتَيْنا على الطوع لا على الكره، وقيل إنه تعالى ذكر السماء والأرض ثم ذكر الطوع والكره، فوجب أن يتصرف الطوع إلى السماء والكره إلى الأرض بتخصيص السماء بالطوع لوجوه أحدها : أن السماء في دوام حركتها على نهج واحد لا يختلف، تشبه حيوانا مطيعا للّه تعالى بخلاف الأرض فإنها مختلفة الأحوال، تارة تكون في السكون وأخرى في الحركات المضطربة وثانيها : أن الموجود في السماء ليس لها إلا الطاعة، قال تعالى :

(١) لهذا الدليل تتمة سيوردها المصنف في نهاية الصفحة التالية وهو عندي كالمكرر وإن كان الذي سيجيء هناك أتم مما هنا. [.....]


الصفحة التالية
Icon