مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٥٥
واعلم أنه تعالى لما بين كيفية عقوبة أولئك الكفار في الدنيا أردفه بكيفية عقوبتهم في الآخرة، ليحصل منه تمام الاعتبار في الزجر والتحذير، وقرأ نافع نحشر بالنون أعداء بالنصب أضاف الحشر إلى نفسه، والتقدير يحشر اللّه عز وجل أعداءه الكفار من الأولين والآخرين وحجته أنه معطوف على قوله وَنَجَّيْنَا [فصلت : ١٨] فيحسن أن يكون على وفقه في اللفظ، ويقويه قوله يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ [مريم : ٨٥] وَحَشَرْناهُمْ [الكهف : ٤٧] وأما الباقون فقرءوا على فعل ما لم يسم فاعله لأن قصة ثمود قد تمت وقوله وَيَوْمَ يُحْشَرُ ابتداء كلام آخر، وأيضا الحاشرون لهم هم المأمورون بقوله احْشُرُوا [الصافات : ٢٢] وهم الملائكة، وأيضا أن هذه القراءة موافقة لقوله فَهُمْ يُوزَعُونَ [فصلت : ١٩] وأيضا فتقدير القراءة الأولى أن اللّه تعالى قال : ويوم نحشر أعداء اللّه إلى النار فكان الأولى على هذا التقدير أن يقال ويوم نحشر أعداءنا إلى النار.
واعلم أنه تعالى لما ذكر أن أعداء اللّه يحشرون إلى النار قال : فَهُمْ يُوزَعُونَ أي يحبس أولهم على آخرهم، أي يوقف سوابقهم حتى يصل إليهم تواليهم، والمقصود بيان أنهم إذا اجتمعوا سألوا عن أعمالهم.
ثم قال : حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ وفيه مسائل :
المسألة الأولى : التقدير حتى إذا جاؤها شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم، وعلى هذا التقدير فكلمة ما صلة، وقيل فيها فائدة زائدة وهي تأكيد أن عند مجيئهم لا بد وأن تحصل هذه الشهادة كقوله أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ [يونس : ٥١] أي لا بد لوقت وقوعه من أن يكون وقت إيمانهم به.
المسألة الثانية : روي أن العبد يقول يوم القيامة : يا رب العزة ألست قد وعدتني أن لا تظلمني، فيقول اللّه تعالى فإن لك ذلك، فيقول العبد إني لا أقبل على نفسي شاهدا إلا من نفسي، فيختم اللّه على فيه وينطق أعضاءه بالأعمال التي صدرت منه، فذلك قوله شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ واختلف الناس في كيفية الشهادة وفيه ثلاثة أقوال أحدها : أنه تعالى يخلق الفهم والقدرة والنطق فيها فتشهد كما يشهد الرجل على ما يعرفه والثاني : أنه تعالى يخلق في تلك الأعضاء الأصوات والحروف الدالة على تلك المعاني كما خلق الكلام في الشجرة والثالث : أن يظهر تلك الأعضاء أحوالا تدل على صدور تلك الأعمال من ذلك الإنسان، وتلك الأمارات تسمى / شهادات، كما يقال يشهد هذا العالم بتغيرات أحواله على حدوثه، واعلم أن هذه المسألة صعبة على المعتزلة أما القول الأول : فهو صعب على مذهبهم لأن البنية عندهم شرط لحصول العقل والقدرة فاللسان مع كونه لسانا يمتنع أن يكون محلا للعلم والعقل، فإن غير اللّه تعالى تلك البنية والصورة خرج عن كونه لسانا وجلدا، وظاهر الآية يدل على إضافة تلك الشهادة إلى السمع والبصر والجلود، فإن قلنا إن اللّه تعالى ما غير بنية هذه الأعضاء فحينئذ يمتنع عليها كونها عاقلة ناطقة فاهمة، وأما القول الثاني : وهو أن يقال إن اللّه تعالى


الصفحة التالية
Icon