مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٥٩
قراءته، كانت قريش يوصي بذلك بعضهم بعضا، والمراد افعلوا عند تلاوة القرآن ما يكون لغوا وباطلا، لتخرجوا قراءة القرآن عن أن تصير مفهومة للناس، فبهذا الطريق تغلبون محمدا صلى اللّه عليه وسلّم، وهذا جهل منهم لأنهم في الحال أقروا بأنهم مشتغلون باللغو والباطل من العمل واللّه تعالى ينصر محمدا بفضله، ولما ذكر اللّه تعالى ذلك هددهم بالعذاب الشديد فقال : فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً لأن لفظ الذوق إنما يذكر في القدر القليل الذي يؤتى به لأجل التجربة، ثم إنه تعالى ذكر أن ذلك الذوق عذاب الشديد، فإذا كان القليل منه عذابا شديدا فكيف يكون حال الكثير منه، ثم قال : وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ واختلفوا فيه فقال الأكثرون المراد جزاء سوء أعمالهم، وقال الحسن بل المراد أنه لا يجازيهم على محاسن أعمالهم، لأنهم أحبطوها بالكفر فضاعت تلك الأعمال الحسنة عنهم، ولم يبق معهم إلا الأعمال القبيحة الباطلة، فلا جرم لم يتحصلوا إلا على جزاء السيئات.
ثم قال تعالى : ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ والمعنى أنه تعالى لما قال في الآية المتقدمة وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ بين أن ذلك الأسوأ الذي جعل جزاء أعداء اللّه هو النار.
ثم قال تعالى : لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ أي لهم في جملة النار دار السيئات معينة وهي دار العذاب المخلد لهم جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي جزاء بما كانوا يلغون في القراءة، وإنما سماه جحودا لأنهم لما علموا أن القرآن بالغ إلى حد الإعجاز خافوا من أنه لو سمعه الناس لآمنوا به فاستخرجوا تلك الطريقة الفاسدة، وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزا إلا أنهم جحدوا للحسد.
واعلم أنه تعالى لما بيّن أن الذي حملهم على الكفر الموجب للعقاب الشديد مجالسة قرناء السوء بين أن الكفار عند الوقوع في العذاب الشديد يقولون رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ والسبب في ذكر هذين القسمين أن الشيطان على ضربين جني وإنسي، قال تعالى : وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ [الأنعام : ١١٢] وقال : الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ [الناس : ٥] وقيل هما إبليس وقابيل لأن الكفر سنّة إبليس، والقتل بغير حق سنة قابيل.
وقرئ أرنا بسكون الراء لثقل الكسرة كما قالوا في فخذ فخذ، وقيل معناه أعطنا الذين أضلانا وحكوا عن الخليل أنك إذا قلت أرني ثوبك بالكسر، فالمعنى بصرنيه وإذا قلته بالسكون فهو استعطاء معناه أعطني ثوبك.
ثم قال تعالى : نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا قال مقاتل يكونان أسفل منا في النار لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ قال الزجاج : ليكونا في الدرك الأسفل من النار، وكان بعض تلامذتي ممن يميل إلى الحكمة يقول المراد باللذين يضلان الشهوة والغضب، وإليهما الإشارة في قصة الملائكة بقوله أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة : ٣٠] ثم قال والمراد بقوله نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا يعني يا ربنا أعنا حتى نجعل الشهوة والغضب تحت أقدام جوهر النفس القدسية، والمراد بكونهما تحت أقدامه كونهما مسخّرين للنفس القدسية مطيعين لها، وأن لا يكونا مسؤولين عليها قاهرين لها.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٠ إلى ٣٢]
إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (٣٠) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (٣١) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (٣٢)


الصفحة التالية
Icon