مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٦٢
يَدَّعُونَ
[يس : ٥٧] فإن قيل فعلى هذا التفسير لا يبقى فرق بين قوله وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
وبين قوله وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
قلنا : الأقرب عندي أن قوله وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ
إشارة إلى الجنة الجسمانية، وقوله وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ
إشارة إلى الجنة الروحانية المذكورة في قوله دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [يونس : ١٠].
ثم قال : نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ والنزل : رزق النزيل وهو الضيف، وانتصابه على الحال، قال العارفون : دلّت هذه الآية على أن كل هذه الأشياء المذكورة جارية مجرى النزل، والكريم إذا أعطى النزل فلا بد وأن يبعث الخلع النفيسة بعدها، وتلك الخلع النفيسة ليست إلا السعادات الحاصلة عند الرؤية والتجلي والكشف التام، نسأل اللّه تعالى أن يجعلنا لها أهلا بفضله وكرمه، إنه قريب مجيب.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٣٣ إلى ٣٦]
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٣) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (٣٤) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٣٥) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٦)
[في قوله تعالى وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ ] اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنا ذكرنا أن الكلام من أول هذه السورة إنما ابتدئ حيث قالوا للرسول قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [فصلت : ٥] ومرادهم ألا نقبل قولك ولا نلتفت إلى دليلك، ثم ذكروا طريقة أخرى في السفاهة، فقالوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ [فصلت : ٢٦] وإنه سبحانه ذكر الأجوبة الشافية، والبيانات الكافية في دفع هذه الشبهات وإزالة هذه الضلالات، ثم إنه سبحانه وتعالى بيّن أن القوم وإن أتوا بهذه الكلمات الفاسدة، إلا أنه يجب عليك تتابع المواظبة على التبليغ والدعوة، فإن الدعوة إلى الدين الحق أكمل الطاعات ورأس العبادات، وعبّر عن هذا المعنى فقال : وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ فهذا وجه شريف حسن في نظم آيات هذه السورة. وفيه وجه آخر وهو أن مراتب السعادات اثنان : التام، وفوق التام، أما التام : فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملا في ذاته، فإذا فرغ من هذه الدرجة اشتغل بعدها بتكميل الناقصين وهو فوق التام، إذا عرفت هذا فنقول إن قوله إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا [فصلت : ٣٠] إشارة إلى المرتبة الأولى، وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها، فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية وهي الاشتغال بتكميل الناقصين، وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق، وهو المراد من قوله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ فهذا أيضا وجه حسن في نظم هذه الآيات.
واعلم أن من آتاه اللّه قريحة قوية ونصابا وافيا من العلوم الإلهية الكشفية، عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن.


الصفحة التالية
Icon