مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٧٠
منه لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه، أما لما أنزلنا هذا الكتاب بلغة العرب، وبألفاظهم وأنتم من أهل هذه اللغة، فكيف يمكنكم ادعاء أن قلوبكم في أكنة منها، وفي آذانكم وقر منها، فظهر أنا إذا جعلنا هذا الكلام جوابا عن ذلك الكلام، بقيت السورة من أولها إلى آخرها على أحسن وجوه النظم، وأما على الوجه الذي يذكره الناس فهو عجيب جدا.
ثم قال تعالى : قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ.
واعلم أن هذا متعلق بقولهم وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ إلى آخر الآية، كأنه تعالى يقول : إن هذا الكلام أرسلته إليكم بلغتكم لا بلغة أجنبية عنكم، فلا يمكنكم أن تقولوا إن قلوبنا في أكنة منه بسبب جهلنا بهذه اللغة، فبقي أن يقال إن كل من آتاه اللّه طبعا مائلا إلى الحق، وقلبا مائلا إلى الصدق، وهمة تدعوه إلى بذل الجهد في طلب الدين، فإن هذا القرآن يكون في حقه هدى وشفاء. أما كونه هدى فلأنه دليل على الخيرات ويرشد إلى كل السعادات، وأما كونه شفاء فإنه إذا أمكنه الاهتداء فقد حصل الهدى، فذلك الهدى شفاء له من مرض الكفر والجهل، وأما من كان غارقا في بحر الخذلان، وتائها في مفاوز الحرمان، ومشغوفا بمتابعة الشيطان، كان هذا القرآن في آذانه وقرا، كما قال : وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت : ٥] وكان القرآن عليهم عمى كما قال :
وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت : ٥]، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ بسبب ذلك الحجاب الذي حال بين الانتفاع ببيان القرآن، وكل من أنصف ولم يتعسف علم أنا إذا فسرنا هذه الآية على الوجه الذي ذكرناه صارت هذه السورة من أولها إلى آخرها كلاما واحدا منتظما مسوقا نحو غرض واحد، فيكون هذا التفسير أولى مما ذكروه، وقرأ الجمهور وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى على المصدر، وقرأ ابن عباس عم على النعت، قال أبو عبيد والأول هو الوجه، كقوله هُدىً وَشِفاءٌ وكذلك عَمًى هو مصدر مثلها، ولو كان المذكور أنه هاد وشاف لكان الكسر في عَمًى أجود فيكون نعتا مثلهما، وقوله تعالى : أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ قال ابن عباس : يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاء ونداء، وقيل من دعي من مكان بعيد لم يسمع، وإن سمع لم يفهم، فكذا حال هؤلاء.
ثم قال تعالى : وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وأقول أيضا إن هذا متعلق بما قبله، كأنه قيل إنا لما آتينا موسى الكتاب اختلفوا فيه، فقبله بعضهم ورده الآخرون، فكذلك آتيناك هذا الكتاب فقبله بعضهم وهم أصحابك، ورده الآخرون، وهم الذين يقولون قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ.
ثم قال تعالى : وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يعني في تأخير العذاب عنهم إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة، كما قال : بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ [القمر : ٤٦] لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ يعني المصدق والمكذب بالعذاب الواقع بمن كذب وإنهم لفي شك من صدقك وكتابك مريب، فلا ينبغي أن تستعظم استيحاشك من قولهم قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ.
ثم قال : مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها يعني خفف على نفسك إعراضهم، فإنهم إن آمنوا فنفع إيمانهم يعود عليهم، وإن كفروا فضرر كفرهم يعود إليهم، واللّه سبحانه يوصل إلى كل أحد ما يليق بعمله من الجزاء وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ.
[سورة فصلت (٤١) : الآيات ٤٧ إلى ٥٤]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨) لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (٤٩) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (٥٠) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (٥١)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٢) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٥٣) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (٥٤)


الصفحة التالية
Icon