مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٧٣
الغالب على الظن أن القول بالبعث والقيامة باطل، وبتقدير أن يكون حقا فإن لي عنده للحسنى، وهذه الكلمة تدل على جزمهم بوصولهم إلى الثواب من وجوه الأول : أن كلمة إن تفيد التأكيد الثاني : أن تقديم كلمة لي تدل على هذا التأكيد الثالث : قوله عِنْدَهُ يدل على أن تلك الخيرات حاضرة مهيئة عنده كما تقول لي عند فلان كذا من الدنانير، فإن هذا يفيد كونها حاضرة عنده، فلو قلت إن لي عند فلان كذا من الدنانير لا يفيد ذلك والرابع : اللام في قوله لَلْحُسْنى تفيد التأكيد الخامس : للحسنى يفيد الكمال في الحسنى.
ولما حكى اللّه تعالى عنهم هذه الأقوال الثلاثة الفاسدة قال : فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا أي نظهر لهم أن الأمر على ضد ما اعتقدوه وعلى عكس ما تصوروه كما قال تعالى : وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان : ٢٣] وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ في مقابلة قولهم إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى.
ولما حكى اللّه تعالى أقوال الذي أنعم عليه بعد وقوعه في الآفات حكى أفعاله أيضا فقال : وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن التعظيم لأمر اللّه والشفقة على خلق اللّه وَنَأى بِجانِبِهِ أي ذهب بنفسه وتكبر وتعظم، ثم إن مسه الضر والفقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع، وقد استعير العرض لكثرة الدماء ودوامه وهو من صفات الأجرام ويستعار له الطول أيضا كما استعير الغلظ لشدة العذاب.
واعلم أنه تعالى لما ذكر الوعيد العظيم على الشرك وبين أن المشركين يرجعون عن القول بالشرك في يوم القيامة، ويظهرون من أنفسهم الذلة والخضوع بسبب استيلاء الخوف عليهم، وبين أن الإنسان جبل على التبدل، فإن وجد لنفسه قوة بالغ في التكبر والتعظم، وإن أحسّ بالفتور والضعف بالغ في إظهار الذلة والمسكنة ذكر عقيبه كلاما آخر يوجب على هؤلاء الكفار أن لا يبالغوا في إظهار النفرة من قبول التوحيد، وأن لا يفرطوا في إظهار العداوة مع الرسول صلى اللّه عليه وسلّم فقال : قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ وتقرير هذا الكلام أنكم كلما سمعتم هذا القرآن أعرضتم عنه وما تأملتم فيه وبالغتم في النفرة عنه حتى قلتم قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ [فصلت : ٥] ثم من المعلوم بالضرورة أنه ليس العلم بكون القرآن باطلا علما بديهيا، وليس العلم بفساد القول بالتوحيد والنبوّة علما بديهيا، فقبل الدليل يحتمل أن يكون صحيحا وأن يكون فاسدا بتقدير أن يكون صحيحا كان إصراركم على دفعه من أعظم موجبات العقاب، فهذا الطريق يوجب عليكم أن تتركوا هذه الثغرة، وأن ترجعوا إلى النظرة والاستدلال فإن دل الدليل على صحته قبلتموه، وإن دل على فساده تركتموه، فأما قبل الدليل فالإصرار على الدفع والإعراض بعيد عن العقل، وقوله مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ موضوع موضع منكم بيانا لحالهم وصفاتهم، ولما ذكر هذه الوجوه الكثيرة في تقرير التوحيد والنبوّة، وأجاب عن شبهات / المشركين وتمويهات الضالين قال : سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ قال الواحدي واحد الآفاق أفق وهو الناحية من نواحي الأرض، وكذلك آفاق السماء نواحيها وأطرافها، وفي تفسير قوله سَنُرِيهِمْ
آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ قولان الأول : أن المراد بآيات الآفاق الآيات الفلكية والكوكبية وآيات الليل والنهار وآيات الأضواء والإضلال والظلمات وآيات عالم العناصر الأربعة وآيات المواليد الثلاثة، وقد أكثر اللّه منها في القرآن، وقوله وَفِي أَنْفُسِهِمْ المراد منها الدلائل المأخوذة من كيفية تكون الأجنة في ظلمات الأرحام وحدوث الأعضاء العجيبة والتركيبات الغريبة، كما قال تعالى : وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [الذاريات : ٢١] يعني نريهم من هذه الدلائل مرة بعد أخرى إلى أن تزول


الصفحة التالية
Icon