مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٨٥
عديم الأثر، بل كان مفيدا للمبالغة من الوجه الذي ذكرناه، وزعم جهم بن صفوان أن المقصود من هذه الآية بيان أنه تعالى ليس مسمى باسم الشيء قال لأن كل شيء فإنه يكون مثلا لمثل نفسه فقول لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ معناه ليس مثل مثله شيء وذلك يقتضي أن لا يكون هو مسمى باسم الشيء، وعندي فيه طريقة أخرى، وهي أن المقصود من ذكر الجمع بين حرفي التشبيه الدليل الدال على كونه منزّها عن المثل، وتقريره أن يقال لو كان له مثل لكن هو مثل نفسه، وهذا محال فإثبات المثل له محال، أما بيان أنه لو كان له مثل لكان هو مثل نفسه فالأمر فيه ظاهر، وأما بيان أن هذا محال فلأنه لو كان مثل مثل نفسه لكان مساويا لمثله في تلك الماهية ومباينا له في نفسه، وما به المشاركة غير ما به المباينة. فتكون ذات كل واحد منهما مركبا وكل مركب ممكن، فثبت أنه لو حصل لواجب الوجود مثل لما كان هو في نفسه واجب الوجود، إذا عرفت هذا فقوله ليس مثله مثله شيء إشارة إلى أنه لو صدق عليه أنه مثل مثل نفسه لما كان هو شيئا بناء على ما بينا أنه لو حصل لواجب الوجود مثل لما كان واجب الوجود، فهذا ما يحتمله اللفظ.
المسألة الثالثة : هذه الآية دالة على نفي المثل وقوله تعالى : وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى [الروم : ٢٧] يقتضي إثبات المثل فلا بد من الفرق بينهما، فنقول المثل هو الذي يكون مساويا للشيء في تمام الماهية والمثل هو الذي يكون مساويا له في بعض الصفات الخارجة عن الماهية وإن كان مخالفا في تمام الماهية.
المسألة الرابعة : قوله وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يدل على كونه تعالى سامعا للمسموعات مبصرا للمرئيات، فإن قيل يمتنع إجراء هذا اللفظ على ظاهره وذلك لأنه إذا حصل قرع أو قلع انقلب الهواء من بين ذينك الجسمين انقلابا يعنف فيتموج الهواء بسبب ذلك ويتأدى ذلك التموج إلى سطح الصماخ فهذا هو السماع، وأما الإبصار فهو عبارة عن تأثر الحدقة بصورة المرئي، فثبت أن السمع والبصر عبارة عن تأثر الحاسة، وذلك على اللّه محال، فثبت أن إطلاق السمع والبصر على علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات غير جائز والجواب :
الدليل على أن السماع مغاير لتأثر الحاسة أنا إذا سمعنا الصوت علمنا أنه من أي الجوانب جاء فعلمنا أنا أدركنا الصوت حيث وجد ذلك الصوت في نفسه، وهذا يدل على أن إدراك الصوت حالة مغايرة لتأثير الصماخ عن تموج ذلك الهواء. وأما الرؤية فالدليل على أنها حالة مغايرة لتأثر الحدقة، فذلك لأن نقطة الناظر جسم صغير فيستحيل انطباع الصورة العظيمة فيه، فنقول الصورة المنطبعة صغيرة والصورة المرئية في نفس العالم عظيمة، وهذا يدل على أن الرؤية حالة مغايرة لنفس ذلك الانطباع، وإذا ثبت هذا فنقول / لا يلزم من امتناع التأثر في حق اللّه امتناع السمع والبصر في حقه، فإن قالوا هب أن السمع والبصر حالتان مغايرتان لتأثر الحاسة إلا أن حصولهما مشروط بحصول ذلك التأثر، فلما كان حصول ذلك التأثر في حق اللّه تعالى ممتنعا كان حصول السمع والبصر في حق اللّه ممتنعا، فنقول ظاهر قوله وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يدل على كونه سميعا بصيرا فلم يجز لنا أن نعدل عن هذا الظاهر إلا إذا قام الدليل على أن الحاسة المسماة بالسمع والبصر مشروطة بحصول التأثر، والتأثر في حق اللّه تعالى ممتنع، فكان حصول الحاسة المسماة بالسمع والبصر ممتنعا، وأنتم المدعون لهذا الاشتراط فعليكم الدلالة على حصوله، وإنما نحن متمسكون بظاهر اللفظ إلى أن تذكروا ما يوجب العدول عنه، فإن قال قائل قوله وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ يفيد الحصر، فما معنى هذا الحصر، مع أن العباد أيضا موصوفون بكونهم سميعين بصيرين؟ فنقول السميع والبصير لفظان مشعران بحصول هاتين الصفتين على سبيل


الصفحة التالية
Icon