مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٨٨
يكون واجب البقاء في جميع الشرائع والأديان، كالقول بحسن الصدق والعدل والإحسان، والقول بقبح الكذب والظلم والإيذاء، ومنها ما يختلف باختلاف الشرائع والأديان، ودلت هذه الآية على أن سعي الشرع في تقرير النوع الأول أقوى من سعيه في تقرير النوع الثاني، لأن المواظبة على القسم الأول مهمة في اكتساب الأحوال المفيدة لحصول السعادة في الدار الآخرة.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ مشعر بأن حصول الموافقة أمر مطلوب في الشرع والعقل، وبيان منفعته من وجوه الأول : أن للنفوس تأثيرات، وإذا تطابقت النفوس وتوافقت على واحد قوي التأثير الثاني : أنها إذا توافقت صار كل واحد منها معينا للآخر في ذلك المقصود المعين، وكثرة الأعوان توجب حصول المقصود، أما إذا تخالفت تنازعت وتجادلت فضعفت فلا يحصل المقصود الثالث : أن حصول التنازع ضد مصلحة العالم لأن ذلك يفضي إلى الهرج والمرج والقتل والنهب، فلهذا السبب أمر اللّه تعالى في هذه الآية بإقامة الدين على وجه لا يفضي إلى التفرق وقال في آية أخرى وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا [الأنفال : ٤٦].
ثم قال تعالى : اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وفيه وجهان الأول : أنه تعالى لما أرشد أمة محمد صلى اللّه عليه وسلّم إلى التمسك بالدين المتفق عليه بين أنه تعالى إنما أرشدهم إلى هذا الخير، لأنه اجتباهم واصطفاهم وخصهم بمزيد الرحمة والكرامة الثاني : أنه إنما كبر عليهم هذا الدعاء من الرسل لما فيه من الانقياد لهم تكبرا وأنفة فبين تعالى أنه يخص من يشاء بالرسالة ويلزم الانقياد لهم، ولا يعتبر الحسب والنسب والغنى، بل الكل سواء في أنه يلزمهم اتباع الرسل الذين اجتباهم الله تعالى، واشتقاق لفظ الاجتباء يدل على الضم والجمع، فمنه جبى الخراج واجتباه وجبى الماء في الحوض فقوله اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ أي يضمه إليه ويقربه منه تقريب الإكرام والرحمة، وقوله مَنْ يَشاءُ كقوله تعالى : يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ [العنكبوت : ٢١].
ثم قال : وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ وهو كما
روي في الخبر «من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة»
أي من أقبل إلي بطاعته أقبلت إليه بهدايتي وإرشادي بأن أشرح له صدره وأسهل أمره.
واعلم أنه تعالى لما بين أنه أمر كل الأنبياء والأمم بالأخذ بالدين المتفق عليه، كان لقائل أن يقول : فلما ذا نجدهم متفرقين؟ فأجاب اللّه تعالى عنهم بقوله وَما تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ يعني أنهم ما تفرقوا إلا من بعد أن علموا أن الفرقة ضلالة، ولكنهم فعلوا ذلك للبغي / وطلب الرياسة فحملتهم الحمية النفسانية والأنفة الطبعية، على أن ذهب كل طائفة إلى مذهب ودعا الناس إليه وقبح ما سواه طلبا للذكر والرياسة، فصار ذلك سببا لوقوع الاختلاف، ثم أخبر تعالى أنهم استحقوا العذاب بسبب هذا الفعل، إلا أنه تعالى أخر عنهم ذلك العذاب، لأن لكل عذاب عنده أجلا مسمى، أي وقتا معلوما، إما لمحض المشيئة كما هو قولنا، أو لأنه علم أن الصلاح تحقيقه به كما عند المعتزلة، وهو معنى قوله وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ والأجل المسمى قد يكون في الدنيا وقد يكون في القيامة، واختلفوا في الذين أريدوا


الصفحة التالية
Icon