مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٩١
اعلم أنه تعالى لما بيّن كونه لطيفا بعباده كثير الإحسان إليهم بين أنه لا بد لهم من أن يسعوا في طلب الخيرات وفي الاحتراز عن القبائح فقال : مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ قال صاحب «الكشاف» إنه تعالى سمى ما يعمله العامل مما يطلب به الفائدة حرثا على سبيل المجاز وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنه تعالى أظهر الفرق في هذه الآية بين من أراد الآخرة وبين من أراد الدنيا من وجوه الأول : أنه قدم مريد حرث الآخرة في الذكر على مريد حرث الدنيا، وذلك يدل على التفضيل، لأنه وصفه بكونه آخرة ثم قدمه في الذكر تنبيها على
قوله «نحن الآخرون السابقون»
الثاني : أنه قال في مريد حرث الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وقال في مريد حرث الدنيا نُؤْتِهِ مِنْها وكلمة من للتبعيض، فالمعنى أنه يعطيه بعض ما يطلبه ولا يؤتيه كله، وقال في سورة بني إسرائيل عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء : ١٨] وأقول البرهان العقلي مساعد على البابين، وذلك لأن كل من عمل للآخرة وواظب على ذلك العمل، فكثرة الأعمال سبب لحصول الملكات، فكل من كانت مواظبته على تلك الأعمال أكثر كان ميل قلبه إلى طلب الآخرة أكثر، وكلما كان الأمر كذلك كان الابتهاج أعظم والسعادات أكثر، وذلك هو المراد بقوله نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وأما طالب الدنيا فكلما كانت مواظبته على أعمال ذلك الطلب أكثر كانت رغبته في الفوز بالدنيا أكثر وميله إليها / أشد، وإذا كان الميل أبدا في التزايد، وكان حصول المطلوب باقيا على حالة واحدة كان الحرمان لازما لا محالة الثالث : أنه تعالى قال في طالب حرث الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ولم يذكر أنه تعالى يعطيه الدنيا أم لا، بل بقي الكلام ساكتا عنه نفيا وإثباتا، وأما طالب حرث الدنيا فإنه تعالى بين أنه لا يعطيه شيئا من نصيب الآخرة على التنصيص، وهذا يدل على التفاوت العظيم كأنه يقول الآخرة أصل والدنيا تبع، فواجد الأصل يكون واجدا للتبع بقدر الحاجة، إلا أنه لم يذكر ذلك تنبيها على أن الدنيا أخس من أن يقرن ذكرها بذكر الآخرة والرابع : أنه تعالى بيّن أن طالب الآخرة يزاد في مطلوبه، وبين أن طالب الدنيا يعطي بعض مطلوبه من الدنيا، وأما في الآخرة فإنه لا يحصل له نصيب ألبتة، فبين بالكلام
الأول أن طالب الآخرة يكون حاله أبدا في الترقي والتزايد وبين بالكلام الثاني أن طالب الدنيا يكون حاله في المقام الأول في النقصان وفي المقام الثاني في البطلان التام الخامس : أن الآخرة


الصفحة التالية
Icon