مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٩٤
قد أبيتم ذلك فاحفظوا حق القربى ولا تؤذوني ولا تهيجوا علي.
والقول الثاني :
روى الكلبي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال إن النبي صلى اللّه عليه وسلّم لما قدم المدينة كانت تعروه نوائب وحقوق وليس في يده سعة، فقال الأنصار إن هذا الرجل قد هداكم اللّه على يده وهو ابن أختكم وجاركم في بلدكم، فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا ثم أتوه به فرده عليهم، فنزل قوله تعالى : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً
أي على الإيمان إلا أن تودوا أقاربي فحثهم على مودة أقاربه «١».
القول الثالث : ما ذكره الحسن فقال : إلا أن تودوا إلى اللّه فيما يقربكم إليه من التودد إليه بالعمل الصالح، فالقربى على القول الأول القرابة التي هي بمعنى الرحم وعلى الثاني القرابة التي هي بمعنى الأقارب، وعلى الثالث هي فعلى من القرب والتقريب، فإن قيل الآية مشكلة، ذلك لأن طلب الأجر على تبليغ الوحي لا يجوز ويدل عليه وجوه :
الأول : أنه تعالى حكى عن أكثر الأنبياء عليهم السلام أنهم صرّحوا بنفي طلب الأجرة، فذكر في قصة نوح عليه السلام وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ [الشعراء : ١٠٩] وكذا في قصة هود وصالح، وفي قصة لوط وشعيب عليهم السلام، ورسولنا أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام فكان بأن لا يطلب الأجر على النبوّة والرسالة أولى الثاني : أنه صلى اللّه عليه وسلّم صرح بنفي طلب الأجر في سائر الآيات فقال : قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ [سبأ : ٤٧] وقال : قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص : ٨٦] الثالث : العقل يدل عليه وذلك لأن ذلك التبليغ كان واجبا عليه قال تعالى : بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة : ٦٧] وطلب الأجر على أداء الواجب لا يليق بأقل الناس فضلا عن أعلم العلماء الرابع : أن النبوّة أفضل من الحكمة وقد قال تعالى في صفة الحكمة وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة : ٢٦٩] وقال في صفة الدنيا قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ [النساء : ٧٧] فكيف يحسن في العقل مقابلة أشرف الأشياء بأخس الأشياء الخامس : أن طلب الأجر كان يوجب التهمة، وذلك ينافي القطع بصحة النبوة، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز من النبي صلى اللّه عليه وسلّم أن يطلب أجرا ألبتة على التبليغ والرسالة، وظاهر هذه الآية يقتضي أنه طلب أجرا على التبليغ والرسالة، وهو المودة في القربى هذا تقرير السؤال. والجواب عنه : أنه لا نزاع في أنه لا يجوز طلب الأجر على التبليغ والرسالة، بقي قوله إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى نقول الجواب عنه من وجهين الأول : أن هذا من باب قوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بها من قراع الدار عين فلول
المعنى أنا لا أطلب منكم إلا هذا وهذا في الحقيقة ليس أجرا لأن حصول المودة بين المسلمين أمر واجب قال تعالى : وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ [التوبة : ٧١] وقال صلى اللّه عليه وسلّم :«المؤمنون كالبنيان يشد بعضهم بعضا»
والآيات والأخبار في هذا الباب كثيرة وإذا كان حصول المودة بين جمهور المسلمين واجبا

(١) للآية معنى بعيد عن كل هذه الإشكالات هو أن إنذار الرسول لهم ودعوته إلى أن يؤمنوا باللّه ويتركوا عبادة الأوثان ليس إلا صلة قرابتهم منه، ولأنهم عشيرته، وإنما كان هذا في صدر الدعوة حين أمر بإنذار عشيرته الأقربين لأن القرابة تقتضي البر والعون فكأن الرسالة أجر القربى التي هي أهم من أن يكون قربى نسب أو جوار أو غيرهما وهو الأولى حض على مودة أولي القربى.


الصفحة التالية
Icon