مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٥٩٧
ليس من الكاذبين المفترين على اللّه، ويجوز أن يكون هذا وعدا من اللّه لرسوله بأنه يمحو الباطل الذي هم عليه من البهت والفرية والتكذيب ويثبت الحق الذي كان محمد صلى اللّه عليه وسلّم عليه.
ثم قال : إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي إن اللّه عليم بما في صدرك وصدورهم فيجري الأمر على حسب ذلك، وعن قتادة يختم على قلبك ينسيك القرآن ويقطع عنك الوحي، بمعنى لو افترى على اللّه الكذب لفعل اللّه به ذلك.
واعلم أنه تعالى لما قال : أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ثم برأ رسوله مما أضافوه إليه من هذا وكان من المعلوم أنهم قد استحقوا بهذه الفرية عقابا عظيما، لا جرم ندبهم اللّه إلى التوبة وعرفهم أنه يقبلها من كل مسيء وإن عظمت إساءته، فقال : وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وفي هذه الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب «الكشاف» : يقال قبلت منه الشيء وقبلته عنه، فمعنى قبلته منه أخذته منه وجعلته مبدأ قبول ومنشأه، ومعنى قبلته عنه أخذته وأثبته عنه وقد سبق البحث المستقصى عن حقيقة التوبة في سورة البقرة، وأقل ما لا بد منه الندم على الماضي والترك في الحال والعزم على أن لا يعود إليه في المستقبل، وروى جابر أن أعرابيا دخل مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم وقال اللّهم إني أستغفرك وأتوب إليك وكبر، فلما فرغ من صلاته قال له علي عليه السلام يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين فتوبتك تحتاج إلى توبة، فقال يا أمير المؤمنين وما التوبة؟ فقال اسم يقع على ستة أشياء على الماضي من الذنوب الندامة ولتضييع الفرائض الإعادة ورد المظالم وإذابة النفس في الطاعة كما ربيتها في المعصية وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
المسألة الثانية : قالت المعتزلة يجب على الله تعالى عقلا قبول التوبة، وقال أصحابنا لا يجب على اللّه شيء وكل ما يفعله فإنما يفعله بالكرم والفضل، واحتجوا على صحة مذهبهم بهذه الآية فقالوا إنه تعالى تمدح بقبول التوبة، ولو كان ذلك القبول واجبا لما حصل التمدح العظيم، ألا ترى أن من مدح نفسه بأن لا يضرب الناس ظلما ولا يقتلهم غضبا، كان ذلك مدحا قليلا، أما إذا قال إني أحسن إليهم مع أن ذلك لا يجب علي كان ذلك مدحا وثناء.
المسألة الثالثة : قوله تعالى : وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ إما أن يكون المراد منه أن يعفو / عن الكبائر بعد الإتيان بالتوبة، أو المراد منه أنه يعفو عن الصغائر، أو المراد منه أنه يعفو عن الكبائر قبل التوبة، والأول باطل وإلا لصار قوله وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ عين قوله وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ والتكرار خلاف الأصل، والثاني أيضا باطل لأن ذلك واجب وأداء الواجب لا يتمدح به فبقي القسم الثالث فيكون المعنى أنه تارة يعفو بواسطة قبول التوبة وتارة يعفو ابتداء من غير توبة.
ثم قال : وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالتاء على المخاطبة والباقون بالياء على المغايبة، والمعنى أنه تعالى يعلمه فيثيبه على حسناته ويعاقبه على سيئاته.
ثم قال : وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وفيه قولان أحدهما : الذين


الصفحة التالية
Icon