مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٦٠٣
طريق العفو عنهم، وأما من قرأ ويعفوا فقد استأنف الكلام.
ثم قال : وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ قرأ نافع وابن عامر : يعلم بالرفع على الاستئناف، وقرأ الباقون بالنصب، فالقراءة بالرفع على الاستئناف، وأما بالنصب فللعطف على / تعليل محذوف تقديره لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون في آياتنا والعطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه قوله تعالى : وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مريم : ٢١] وقوله تعالى : وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [الجاثية : ٢٢] قال صاحب «الكشاف» : ومن قرأ على جزم ويعلم فكأنه قال أو إن يشأ، يجمع بين ثلاثة أمور : هلاك قوم، ونجاة قوم، وتحذير آخرين. إذا عرفت هذا فنقول معنى الآية وليعلم الذين يجادلون أي ينازعون على وجه التكذيب، أن لا مخلص لهم إذا وقفت السفن، وإذا عصفت الرياح فيصير ذلك سببا لاعترافهم بأن الإله النافع الضار ليس إلا اللّه.
واعلم أنه تعالى لما ذكر دلائل التوحيد أردفها بالتفسير عن الدنيا وتحقير شأنها، لأن الذي يمنع من قبول الدليل إنما هو الرغبة في الدنيا بسبب الرياسة وطلب الجاه، فإذا صغرت الدنيا في عين الرجل لم يلتفت إليها، فحينئذ ينتفع بذكر الدلائل، فقال : فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وسماه متاعا تنبيها على قلته وحقارته، ولأن الحس شاهد بأن كل ما يتعلق بالدنيا فإنه يكون سريع الانقراض والانقضاء.
ثم قال تعالى : وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى والمعنى أن مطالب الدنيا خسيسة منقرضة، ونبه على خساستها بتسميتها بالمتاع، ونبّه على انقراضها بأن جعلها من الدنيا، وأما الآخرة فإنها خير وأبقى، وصريح العقل يقتضي ترجيح الخير الباقي على الخسيس الفاني، ثم بين أن هذه الخيرية إنما تحصل لمن كان موصوفا بصفات :
الصفة الأولى : أن يكون من المؤمنين بدليل قوله تعالى : لِلَّذِينَ آمَنُوا.
الصفة الثانية : أن يكون من المتوكلين على فضل اللّه، بدليل قوله تعالى : وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فأما من زعم أن الطاعة توجب الثواب، فهو متكل على عمل نفسه لا على اللّه، فلا يدخل تحت الآية.
الصفة الثالثة : أن يكونوا مجتنبين لكبائر الإثم والفواحش، عن ابن عباس : كبير الإثم، هو الشرك، نقله صاحب «الكشاف» : وهو عندي بعيد، لأن شرط الإيمان مذكور أولا وهو يغني عن عدم الشرك، وقيل المراد بكبائر الإثم ما يتعلق بالبدع واستخراج الشبهات، وبالفواحش ما يتعلق بالقوة الشهوانية، وبقوله وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ما يتعلق بالقوة الغضبية، وإنما خص الغضب بلفظ الغفران، لأن الغضب على طبع النار، واستيلاؤه شديد ومقاومته صعبة، فلهذا السبب خصّه بهذا اللفظ، واللّه أعلم.
الصفة الرابعة : قوله تعالى : وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ والمراد منه تمام الانقياد، فإن قالوا أليس أنه لما جعل الإيمان شرطا فيه فقد دخل في الإيمان إجابة اللّه؟ قلنا الأقرب عندي أن يحمل هذا على الرضاء بقضاء اللّه من صميم القلب، وأن لا يكون في قلبه منازعة في أمر من الأمور. ولما ذكر هذا الشرط قال : وَأَقامُوا الصَّلاةَ والمراد منه إقامة الصلوات الواجبة، لأن هذا هو / الشرط في حصول الثواب.
وأما قوله تعالى : وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ فقيل كان إذا وقعت بينهم واقعة اجتمعوا وتشاوروا فأثنى اللّه عليهم، أي لا ينفردون برأي بل ما لم يجتمعوا عليه لا يقدمون عليه، وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا


الصفحة التالية
Icon