مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٦١٥
من الذي يؤمن، ومن الذي لا يؤمن الثالث : ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان حين كنت طفلا في المهد الرابع :/ الإيمان عبارة عن الإقرار بجميع ما كلف اللّه تعالى به، وإنه قبل النبوة ما كان عارفا بجميع تكاليف اللّه تعالى، بل إنه كان عارفا باللّه تعالى، وذلك لا ينافي ما ذكرناه الخامس : صفات اللّه تعالى على قسمين : منها ما يمكن معرفته بمحض دلائل العقل، ومنها ما لا يمكن معرفته إلا بالدلائل السمعية. فهذا القسم الثاني لم تكن معرفته حاصلة قبل النبوة.
ثم قال تعالى : وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا واختلفوا في الضمير في قوله وَلكِنْ جَعَلْناهُ منهم من قال إنه راجع إلى القرآن دون الإيمان لأنه هو الذي يعرف به الأحكام، فلا جرم شبه بالنور الذي يهتدي به، ومنهم من قال إنه راجع إليهما معا، وحسن ذلك لأن معناهما واحد كقوله تعالى : وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها [الجمعة : ١١].
ثم قال : نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وهذا يدل على أنه تعالى بعد أن جعل القرآن نفسه في نفسه هدى كما قال : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [البقرة : ٢] فإنه قد يهدي به البعض دون البعض وهذه الهداية ليست إلا عبارة عن الدعوة وإيضاح الأدلة لأنه تعالى قال في صفة محمد صلى اللّه عليه وسلّم وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو يفيد العموم بالنسبة إلى الكل وقوله نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا يفيد الخصوص فثبت أن الهداية بمعنى الدعوة عامة والهداية في قوله نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا خاصة والهداية الخاصة غير الهداية العامة فوجب أن يكون المراد من قوله نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا أمرا مغايرا لإظهار الدلائل ولإزالة الأعذار، ولا يجوز أيضا أن يكون عبارة عن الهداية إلى طريق الجنة لأنه تعالى قال : وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا أي جعلنا القرآن نورا نهدي به من نشاء، وهذا لا يليق إلا بالهداية التي تحصل في الدنيا، وأيضا فالهداية إلى الجنة عندكم في حق البعض واجب، وفي حق الآخرين محظور، وعلى التقديرين فلا يبقى لقوله مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا فائدة، فثبت أن المراد أنه تعالى يهدي من يشاء ويضل من يشاء ولا اعتراض عليه فيه.
ثم قال تعالى لمحمد صلى اللّه عليه وسلّم : وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فبيّن تعالى أنه كما أن القرآن يهدي فكذلك الرسول يهدي، وبين أنه يهدي إلى صراط مستقيم وبين أن ذلك الصراط هو صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ نبه بذلك على أن الذي تجوز عبادته هو الذي يملك السموات والأرض، والغرض منه إبطال قول من يعبد غير اللّه.
ثم قال : أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ وذلك كالوعيد والزجر، فبيّن أن أمر من لا يقبل هذه التكاليف يرجع إلى اللّه تعالى، أي إلى حيث لا حاكم سواه فيجازي كلا منهم بما يستحقه من ثواب أو عقاب.
قال رضي اللّه عنه : تمّ تفسير هذه السورة آخر يوم الجمعة الثامن من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة، يا مدبر الأمور، ويا مدهر الدهور ويا معطي كل خير وسرور، ويا دافع البلايا والشرور، أوصلنا إلى منازل النور، في ظلمات القبور، بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين.


الصفحة التالية
Icon