مفاتيح الغيب، ج ٢٧، ص : ٦٢٢
خلق تلك البهيمة على وجوه مخصوصة في خلقها الظاهر، وفي خلقها الباطن يحصل منها هذا الانتفاع، أما خلقها الظاهر : فلأنها تمشي على أربع قوائم، فكان ظاهرها كالموضع الذي يحسن استقرار الإنسان عليه، وأما خلقها الباطن، فلأنها مع قوتها الشديدة قد خلقها اللّه سبحانه بحيث تصير منقادة للإنسان ومسخرة له، فإذا تأمل الإنسان في هذه العجائب وغاص بعقله في بحار هذه الأسرار، عظم تعجبه من تلك القدرة القاهرة والحكمة غير المتناهية، فلا بد وأن يقول سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ قال أبو عبيدة : فلان مقرن لفلان، أي ضابط له. قال الواحدي : وكان اشتقاقه من قولك ضرب له قرنا، ومعن أنا قرن لفلان، أي مثاله في الشدة، فكان المعنى أنه ليس عندنا من القوة والطاقة أن نقرن هذه الدابة والفلك وأن نضبطها، فسبحان من سخرها لنا بعلمه وحكمته وكمال قدرته،
روى صاحب «الكشاف» : عن النبي صلى اللّه عليه وسلّم، أنه كان إذا وضع رجليه في الركاب قال :«بسم اللّه، فإذا استوى على الدابة، قال الحمد للّه على كل حال، سبحان الذي سخر لنا هذا، إلى قوله لمنقلبون»
وروى القاضي في «تفسيره» : عن أبي مخلد أن الحسن بن علي عليهما السلام : رأى رجلا ركب دابة، فقال سبحان الذي سخر لنا هذا، فقال له ما بهذا أمرت، أمرت أن تقول : الحمد للّه الذي هدانا للإسلام، الحمد للّه الذي من علينا بمحمد صلى اللّه عليه وسلّم، والحمد للّه الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، ثم تقول : سبحان الذي سخر لنا هذا،
وروي أيضا عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم :«أنه كان إذا سافر وركب راحلته، كبر ثلاثا، ثم يقول :
سبحان الذي سخّر لنا هذا، ثم قال : اللّهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى، اللّهم هون علينا السفر واطو عنا بعد الأرض، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة على الأهل، اللّهم أصحبنا في سفرنا، وأخلفنا في أهلنا»

وكان إذا رجع إلى أهله يقول «آئبون تائبون، لربنا حامدون»
قال صاحب «الكشاف» :
دلّت هذه الآية على خلاف قول المجبرة من وجوه الأول : أنه تعالى قال : لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ فذكره بلام كي، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منا هذا الفعل، وهذا يدل على بطلان قولهم أنه تعالى أراد الكفر منه، وأراد الإصرار على الإنكار الثاني : أن قوله لِتَسْتَوُوا يدل على أن فعله معلل بالأغراض الثالث :
أنه تعالى بين أن خلق هذه الحيوانات على هذه الطبائع إنما كان لغرض أن يصدر الشكر على العبد، فلو كان فعل العبد فعلا للّه تعالى، لكان معنى الآية إني خلقت هذه الحيوانات لأجل أن أخلق سبحان اللّه في لسان العبد :
وهذا باطل، لأنه تعالى قادر على أن يخلق هذا اللفظ في لسانه بدون هذه الوسائط.
واعلم أن الكلام على هذه الوجوه معلوم، فلا فائدة في الإعادة.
ثم قال تعالى : وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ واعلم أن وجه اتصال هذا الكلام بما قبله أن ركوب الفلك في خطر الهلاك، فإنه كثيرا ما تنكسر السفينة ويهلك الإنسان وراكب الدابة أيضا كذلك لأن الدابة قد يتفق لها اتفاقات توجب هلاك الراكب، وإذا كان كذلك فركوب الفلك والدابة يوجب تعريض النفس للهلاك، فوجب على الراكب أن يتذكر أمر الموت، وأن يقطع أنه هالك لا محالة، وأنه منقلب إلى اللّه تعالى وغير منقلب من قضائه وقدره، حتى لو اتفق له ذلك المحذور كان قد وطن نفسه على الموت.
[سورة الزخرف (٤٣) : الآيات ١٥ إلى ١٩]
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩)


الصفحة التالية
Icon